الكتاب: فهم الإسلام السياسي
الكاتب : فرنسوا بورغا
ترجمة: جلال بدلة
الناشر: دار الساقي 2018.. الطبعة الأولى
يعدّ فرنسوا بورغا من بين أهمّ الخبراء المختصّصين في دراسة "الإسلام السياسي". فقد نشر قبل كتابه هذا ثلاثة كتب حول الموضوع نفسه: "الإسلام السياسي في المنطقة المغاربية"، "وجها لوجه مع الإسلام السياسي"، "الإسلام السياسي في زمن القاعدة".
تكمن أهمية الأداء الدراسي للباحث في كتابه "فهم الإسلام السياسي" في خاصيّتين أساسيّتين تميّزان منهجه في معالجة موضوعه: أوّلا، ملازمة الميدان بما هي اتصال مباشر بالفاعلين الإسلاميين وعدم الاكتفاء بالاطلاع على المضامين الفكرية الخاصة بهم ولا بإسقاط ترسانة من المفاهيم الجاهزة التي تشكو في نظره قصورا وعجزا كبيرين. ثانيا، التخلّص من شوائب الأيديولوجيا والخلفيات السياسية التي تُقدّم في "مراكز البحث" الغربية وتضخّ عبر الطرق السيارة للإعلام الخاضع للهيمنة والتوجيه وتُقدَّم على أنها "مقاربات علمية وموضوعية".
فعلى خلاف الباحث الفرنسي الشهير "جيل كيبال"، الذي جعل من قراءة النصوص البوابة التي دخل منها ظاهرة الإسلام السياسي، كان اللقاء مع الفاعلين بوابة "فرنسوا بورغا"، ذلك أنّ "من لا يريد أن يصغي هو أسوا من الأصمّ".
وعلى خلاف المفاهيم المستمدّة من النظريات، يستقي "بورغا" أدوات تحليله وفهمه من الواقع، ففضلا عن تكوينه العلمي الأكاديمي يعزّز الباحث استنتاجاته بقوة التجربة. إنها خبرة التراكم التلقائي على دروب العالم عبر مغامرة طويلة جال خلالها كل البلاد العربية. رحلة هي أقرب إلى مسيرة عمر وحياة منها إلى مسيرة بحث ودراسة. وبفضل شدّة التصاقه بالعالم العربي تشكّلت بينهما لحمة وفق طبقات تراكمية انتهت إلى احتلال أجزاء كاملة من حياته، على حدّ تعبيره. لذلك يصدق على خلاصاته القيّمة والعميقة القول البليغ للفيلسوف الألماني "نيتشة" الذي يثمّن فيه التجربة ومخالطة الفكر للحياة: "وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن نمشي لها قيمة".
فاعل حضاري
خلافا للتأويلات الكسولة، حسب وصف "بورغا"، التي تستند في تناول الإسلام السياسي إلى منطق المؤامرة فلا ترى فيه إلا صناعة لقوى أجنبية، وخلافا للنزعة الاختزالية التي تسم المعالجة الغربية الرسمية التي لا ترى فيه سوى خصما معرقلا لعملية التحديث وعدوّا للديمقراطية ومهدّدا للحريّة، يعتبر الكاتب أن الإسلام السياسي يمثّل تسريعا لسيرورة إعادة تموضع الجنوب الخاضع لسيطرة الشمال. فنشأته تعود بالأساس إلى اختلال عميق خلّفه الاستعمار. إنه فاعل حضاري يسعى إلى استعادة الميادين الأيديولوجية التي استحوذ عليها الشمال الاستعماري الذي خرّب هويته وتاريخه.
وإذا كانت المصطلحات السياسيّة الأخرى كالماركسية أو القوميّة تعتبر في المنظور الشعبي مستوردة أو مقحمة، فإنّ جاذبيّة المصطلح الإسلامي تستمدّ قوّتها من ارتباطها الوثيق بثقافة الموروث المحلّي. ولذلك فإنّ عملية استرداد العالم الرمزي المحلّي استمرّت طويلا مع الإسلام السياسي منذ ظهور "الإخوان المسلمين" حتى يومنا هذا، بقي فقط أنها في كلّ مرّة تأخذ شكلا وصيغة.
عماء غربي
إن السبب الذي ضاعف صعوبة أن يفهم الشمال إعادة تموضع الجنوب هذه التي يسعى الإسلام السياسي إلى حقيقها هو ضعف الأدوات المعرفية التي يمتلكها. وهو ما يسمّيه "بورغا" "العماء الغربي الناجم عن العجز المهين لجيلنا السياسي "الغربي" عن قبول الآخر في تنوّعه ( النسبي جدّا)".
تعرّضت البلاد العربية لهيمنة عسكرية واستغلال اقتصادي من قبل المستعمر. كما كانت عرضة أيضا لاستلاب ثقافي غذّى الحاجة إلى البحث عن مناعة فكرية تكون سلاحا للمقاومة. فبعد العنف المزدوج، العسكري والاقتصادي، يأتي المستوى الثالث الثقافي للهيمنة الاستعمارية التي خرّبت نسيج القيم المحلّيّة وحوّلتها إلى مظهر شكلي فلكلوري. من هنا كانت الحاجة إلى عالم رمزي ينتدب الاسلام السياسي نفسه لتمثيله أو الإحالة إليه. "فالاستلاب الثقافي الملازم للهيمنة الاستعمارية انتهى بتغذية دينامية معاكسة، وهي دينامية البحث الشغوف والعاطفي للمجتمع عن العالم الرمزي ومجتمع "ثقافة الأب". كما غذّى دينامية أخرى تقوم على رفض عنيف لأن تحتكر "عشيرة" المستعمر القديم المندحر إنشاء القيم الكونية".
نظرة استعلائية وعنصرية
يفهم الإسلامي السياسي ضمن هذا السياق التاريخي والحضاري الذي يشقّه خلل عميق أصاب كل تفاصيل الحياة في البلاد العربية والإسلامية. خلل طاول كلّ المجالات: عالم الافكار والأشياء على حدّ سواء، فإذا المجتمع حينها، مبنى ومعنى، مسخا بشعا لا يكاد يعرف من هو وإذا عالمه الرمزي "دمية في يد حداثة المهيمن" الذي أصبح يحتكر التعبير عن القيم الكونية. ما كان للمتطرّفين أن يدخلوا إلى العراق وسوريا واليمن ومالي ونيجيريا ويلقوا ترحيبا ودعما نشطا من السكان لو لم يكن هؤلاء غارقين لعقود في عذاب مرّ جرّاء ذلك الخلل العميق الذي حوّل بلدانهم وهويتهم، بفعل المستعمر أولا وبتواطؤ ممن حلّ محلّه من الحكام المستبدّين ثانيا، إلى أرض جرداء.
المعالجة الاختزالية التبسيطية الكسولة للإسلام السياسي تحسب أنها تنهي الموضوع باستدعاء مقولات من سكينة اليقينيّات التي ورثتها من مرحلة الهيمنة الاستعمارية. لكنها تدفع في كلّ مرة ثمن هذا "العماء الطوعي" عنفا يطال الارواح والممتلكات وأمل الثقة.
النظرة الاستعلائية والعنصرية اللبقة التي يزدري بها الغربُ العربَ والتي تصدر عن ادّعاء، علني أحيانا وخفيّ أحيانا أخرى، للمركزية الحضارية تغذّي دينامية الرّفض لدى الإسلام السياسي، ففضلا عن كونها تكرّس تلك النظرة القديمة التي جلبها المستعمر وتبعث بإشعاعاتها المثيرة للأحقاد، فإنّها تؤكّد أن الاستعمار لم ينجلِ كلّيّا. ولذلك فإنّ من شروط القضاء على العنف والتشدّد هو احترام ثقافة الآخر وتمثّل قيم النسبية لأنّ للآخر أيضا رؤية للوجود جديرة بالاحترام. "دروس مثمرة لا تنسى، فثقافتي الموروثة لا تتحكّم وحدها بدفّة التقدّم. بكلّ تأكيد، توجد قيم كلّيّة في أماكن عدّة في العالم، وليس تحت ظلّ جرس كنيستي فحسب".
من الجزائر إلى ليبيا وتونس ومصر واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها من البلدان التي زارها "فرنسوا بورغا" وأقام في بعضها طويلا، لامس هذه النزعة العدائية التي تسم الموقف الغربي والتي تعتمد سياسة الكيل بمكيالين. فالشهادات التي عاينها والتي ينقلها من هناك تحكي أصل الجريمة وتكشف أن مكمن المشكل يوجد في الغرب في المقام الأوّل.
شواهد عربية
فالألم الفلسطيني يقوم شاهدا صارخا على النفاق الغربي في تعامله مع موضوع الديمقراطية. ويورد هنا "بورغا" الانقلاب على حماس والتنكّر لنتائج صناديق الاقتراع والانحياز الجائر إلى السلطة الفلسطينية. وكيف أن الجميع التقى بنيرانه على حماس (المحتلّ الاسرائيلي وحليفه الاوروبي والاستئصاليون في السلطة الفلسطينية). كما يورد قبل ذلك الألم الجزائري الذي كانت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" ضحّيته بسبب توحّد جهود الجميع ضدّها قلبا للحقائق وتشويها للمعطيات وتزويرا للتاريخ. ويعرض أيضا للدعم الغربي للانقلاب على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي. "هذه الخيانة الاخلاقية اللامتناهية تجلب رصيدا ضخما لدينامية الرفض التي تستولي على التخيلات السياسية لدى الجانب "الإسلامي" وتضع الغرب والدولة الوطنية العربية في مرمى الاستهداف العنيف لأنّ الكلّ منهم فاقد للمصداقية.
تغييب مُتعمَّد
من بين الاخطاء التي يقع فيها بعض الباحثين في موضوع "الإسلام السياسي" تغييب الآثار المتعدّدة لهيمنة دول الشمال على دول الجنوب. هذه الآثار التي لم تَزُل ولم تمّحي من العلاقات الدولية رغم نهاية الاستعمار.
ليس من تعبير أفضل عن هذا المعنى قدر بلاغة ووضوح ما يقوله الكاتب نفسه: "علينا التذكير بوجود صدع معضل لم يلتئم بحق منذ ليل الاستعمار. هوة تفصل بين السياسة التي تنتهجها فرنسا وبين ملايين المواطنين من ثقافة إسلامية، لا مجرّد حفنة من المتشدّدين. لا يجب ان نتحاشى المسألة الجوهرية التالية: الجذور التاريخية الدفينة والبواعث السياسية التنافسية المتجدّدة لسوء الفهم الجاري بين "الإسلام والغرب". بعيدا عن هذه التأويلات، بقيت من جهتي وفيّا لعبارة استخدمتها لأوّل مرة عام 1997 أمام البرلمان الاوروبي: "لا نلقى من المسلمين إلاّ ما اعطيناهم إيّاه". العنف هو الملاذ الأخير من اختلال يتجنّب الكثير من مثقفينا مقاربته وجها لوجه. إنّه اختلال الفضاء السياسي، وآليات التمثيل وتوزيع الموارد بين مختلف مكوّنات النسيج السياسي.
أطروحتي هي: "نصيبنا من المسؤولية في مصيبتنا مع الجهاد". ما أهدف إليه هو أن أضع عالمنا والاختلالات التي يقوم عليها في مركز المسبّبات، وفي النتيجة، ليس الآخر أو دينه وثقافته فحسب".
هشاشة بنيوية
وعليه، فإنّ المبالغة في اعتماد النظرة الأيديولوجية لتفسير سلوك الفاعلين من الإسلام السياسي من شأنها أن تسجن التعبير عن غضبهم ضمن علاقات سببيّة ضيّقة وقاصرة ترتبط بانتمائهم الثقافي والديني فحسب.
هذا المنحى التفسيري يعبّر عن هشاشة بنيوية للمفاهيم وطرائق التحليل التي تتناول ظاهرة الإسلام السياسي. إنه منهج لا يرى الأسباب العميقة الضاربة في طيّات التاريخ أحداثا ووجدانا يتوارثه المضطهدون جيلا بعد جيل ويراكمون معه الشعور بالظلم، ومن ثمّة الغضب، في تعاظم لا يتوقّف. الكلمات التالية تلخّص كل المعنى: "لا نلقى من المسلمين إلاّ ما اعطيناهم إيّاه" و"نصيبنا من المسؤولية في مصيبتنا مع الجهاد". ذلك ما يجب أن يقوله الغرب لنفسه قبل البحث لدى الآخر الإسلامي عن سبب المشكل.
انحراف في معالجة الظاهرة
يعبّر "فرنسوا بورغا" ببلاغة عن هذا الانحراف الذي يسم المعالجة الغربية للإسلام السياسي فيقول: "بغية تخفيف وطأة قلقنا الداخلي، نحاول أن نوجّه انتباهنا إلى إسلام الآخر ونتطلّع إلى تنميطه مهتدين في ذلك بصورتنا، ومختارين البحث عن أصل الإضطرابات بعيدا عنّا، هذه الاضطرابات التي تتعلّق بنا بأشدّ ما يمكن. نشأت في هذا السياق محاولات متكرّرة، تمثّلت في إعادة صوغ مرجعيات الآخر كما يحلو لنا بعد تنصيبه كخصم أيديولوجي، أي كمعرقل دائم لعملية التحديث، فبدل البحث عن الأسباب الحقيقة للتشدّد الإسلامي والكامنة في السياسة الغربية نفسها، يهرب التحليل إلى الأمام وينمّط الغرب خصمه بناء على صورته فيصنّف الإسلام السياسي خصما معرقلا للتحديث.
يؤكّد "بورغا" أنّ العنف "الإسلامي" لا يصدر من "الإسلام". وإنّما نتاج التاريخ الحديث للمسلمين، تاريخ كتبته أيادي عدّة، منها أيادي الجارة الغربية الكبيرة".
السلام أولا
يقلب "بورغا" العلاقة النمطية التي كرّستها الأدبيات الغربية الرسميّة بين السلام والفكر الديني الراديكالي. فإذا كان التصوّر السائد يقول إنّ إحلال السلام يقتضي إصلاح الفكر الديني المتشدّد فإنّ "بورغا" يرى العكس تماما، ذلك أنّه علينا ان نبدأ بإحلال السلام حتى نصل إلى إصلاح الخطاب الديني.
يعمد الغرب إلى الانصات إلى فئة معيّنة من المثقفين العرب من غلاة العلمانيين الاستئصاليين ممّن يردّدون على مسامعه الأطروحات التبسيطية والاختزالية التي يرغب في سماعها دون سواها. فتحظى لديه تلك القلّة، المعادية للدّين والمهمّشة في مجتمعاتها العربيّة والتي لاتمثّل إلاّ نسبة ضئيلة، بالتبجيل والقبول. وغالبا ما يكرّر هؤلاء نفس الأفكار التي يردّدها الغرب ومفادها أنّ الاضطرابات التي تحكم علاقة الغرب بالعالم العربي تعود بالأساس إلى تخلّف الفضاء المرجعي للمسلمين ولا ترتبط إطلاقا بالسياسات ولا بالسلوكات الغربية. إنّ هذا التحليل لا ينتج سوى فهما وظيفيّا لظواهر التشدّد.
وكثيرا ما يحدث التقاء موضوعي وشراكة حقيقية على رأس أجندة الإعلام العالمي المتمحورة حول اسرائيل بين هذه الأخيرة والغرب والحكام العرب المستبدّين. وتنخرط النخب العربية العلمانية اليسارية منها والقومية المعادية للإسلاميين في هذا المسار من القصف والتشويه للجيل الإسلامي. ويتفاقم الوضع مع الضعف الفادح للأداء التواصلي والإعلامي للفاعلين الإسلاميين مع الجمهور الغربي، والسبب أنه : لا يمكن للإسلاميين أن يحصلوا على دعم أولئك الذين يريدون أن يتمايزوا عنهم من أجل تأكيد الذات.
خلفية حضارية لم تغب
الحساسية المفرطة التي يبديها الغرب تجاه كل نفس إسلامي تؤكّد أنّ الخلفية الحضارية لم تغب في التعاطي مع قضايا العالم العربي. يذكر "بورغا" مثالا دالا على ذلك: ففي حواره مع "طارق البشري" قال هذا الأخير: "عندما كنا نعبّر عن طموحاتنا القومية والتحرّريّة بلغة ماركسية أو قومية كان ثمّة في الغرب من يصغي إلينا دائما ... اللحظة التي استخدمنا فيها المصطلح الديني الإسلامي لنعبّر عن الآمال نفسها، غدت الهوّة كبيرة جدّا. لقد كنّا وحيدين".
والآن، إلى أين؟ أو بعبارة "بورغا" "وهلاّ لوين؟"
الجواب باختصار: إمّا المشاركة أو الرّعب. فسلاح الدمار الشامل ضدّ الإرهاب، حسب "بورغا"، هو المشاركة. وتشمل المشاركة هنا كل المجالات: الموارد الاقتصادية والمالية والسلطة السياسية ومشاركة المشاعر والتنديد بالأحادية. وتعني المشاركة أيضا حق كل مجتمع في التعريف وتأكيد تاريخه وجذوره. "لكن المشاركة لا تعني الإعطاء فحسب، بل أيضا أن نتعلّم كيف نأخذ، كما الحال في ما يخصّ آراء الآخرين. فإذا كنّا ممن لا تصلهم أصوات العالم إلاّ من القنوات التي نسيطر عليها، وممّن لا يسمعون إلاّ صوتهم الخاص، سنحرم أنفسنا موردا حيويّا هو وجهة نظر الآخر. لربّما هذا التقوقع هو الذي يمنعنا من الاعتراف بنصيبنا من المسؤولية عن الرعب، لا شكّ في ذلك، ولا سيما أنها الطريقة الوحيدة لإبعاد شبحه. إذن: المشاركة أو الرعب".
تلك هي آخر عبارة في هذا الكتاب الممتع والثريّ. كتاب جمع فيه صاحبه بين غزارة المعلومة وعمق التحليل وجرأة الاستنتاج. جرأة كلّفته لدى دوائر النفوذ الغربي ثمنا كبيرا لم يخف ألمه منه. فقد نعت بأنه "بوق" للاسلاميين و"نصير" لهم ووصف بـ"الأهبل المفيد" للإسلاميين وبـ"صديق الذبّاحين".
(*) باحث في الفكر الإسلامي وعضو مجلس نواب الشعب