مقالات مختارة

زيف المزاعم الإطلاقية لدعاة الليبرالية

1300x600

لا جدال في أنّ قدرا من السلام والعدل والأمل في العالم قابل للتحقّق بشرط إيقاظ أنفسنا من ضجيج المكابرة وجمود الإرادة. ومعسكر السّلام في العالم هو من يجب أن نراهن عليه في تحقيق قدر من العدل الواجب الإمكان في هذا الكون المشترك، الذي يضمّ الجميع. أمّا الإذعان لمعسكر الهيمنة ودعاة الحروب والدمار فما هو إلّا تزكية لمزيد من المعاناة والشقاء الإنساني وإلحاق الظّلم بالبشر. 

وعلى القوى الحية داخل المجتمعات أن تقترح الحلول وتُقدّم الأفكار لإزالة أشكال التمييز العنصري أو العرقي داخل الأوساط الاجتماعية، دفعا باتّجاه السياسات العادلة في العلاقات الدولية، وإنّ الدفع باتّجاه السلام العالمي والانفتاح الثقافي لا يُخلّ بالخصوصية الحضارية، بقدر ما يثريها، كما يُسهم في التقليل من مساعي التنميط وضروب القسر والإكراه، التي لا يزال العالم يعاني من آثارها المدمّرة. 

ونستطيع أن نساير تشومسكي في التمييز بين مسارين اثنين في تاريخنا المعاصر، واحد يتّجه نحو الهيمنة، وهو يعمل ضمن إطار عقائدي مجنون، إذ أنّه يتهدّد البقاء بأفدح الأخطار. والمسار الثاني يُكرّس نفسه للإيمان بأنّ عالما آخر ممكن، إذا ما استعرنا هنا العبارات التي تبثّ «الحيوية» في أوصال المنتدى الاجتماعي الدولي، في تحدّ للنّظام الأيديولوجي السائد، وفي مسعى إلى خلق بدائل بنّاءة في الفكر والعمل والمؤسسات. أيّ المسارين سيسُود؟ لا أحد يستطيع التكهّن، فالنّسق هو هو على مرّ التاريخ، لكن ثمّة فارقا حاسما اليوم هو أنّ الرهان عالٍ وعالٍ جدّا.

اتّساقا مع ما سبق تُقدّم الليبرالية بوصفها الأنموذج الوحيد في ظلّ النظام الرأسمالي لتسيير الشأن السياسي والاقتصادي في العالم المعاصر، وأنصارها ينفون بإطلاق أيّ منافس أو بديل لها، بوصفها أنموذج الكمال، الذي تُرجّح كفّته عن غيره من المذاهب السياسية أو النظم الاقتصادية الأخرى. ولكن نحتاج إلى الوعي بالبعد الوظيفي لمثل هذه «المُثُل» فهو المدخل لفضح أي دعاية أيديولوجية إطلاقية.

أمّا مقولة «نهاية التاريخ» وانتصار أيديولوجية واحدة فهي شعارات إطلاقية في منتهى الإفلاس، والقول بأنّنا بلغنا نقطة النهاية للتطوّر الأيديولوجي للبشرية، انطباع قاصر ومنزلق في الفهم والاستنتاج بدافع تمجيد الليبرالية الجديدة، الشعار المتأخّر للرأسمالية العالمية ومنطق السوق المتحرّر.

ومثل تلك الوثوقية هي بالفعل مجرى المزالق الفكرية التي سقط فيها فوكوياما وغيره من منظّري الليبرالية المطلقة، الذين هلّلوا تبشيرا بكونية النموذج الديمقراطي الغربي كشكل نهائي للحكم الإنساني، خاصّة مع انهيار المعسكر الاشتراكي في أوائل التسعينيات، الذي أتاح الفرصة لأنصار الليبرالية أن يعلنوا سيادة هذا النموذج الفكري والسياسي وبشّروا بقدرته على إدارة المشكلات الاقتصادية وتنظيم الاجتماع والسياسة. نظاما أوحد «ليس في الإمكان أبدع منه» والأيديولوجية الليبرالية تُؤشّر على نهاية التاريخ في نظر فوكوياما.

وتبدو مساءلة النهج الليبرالي اقتصادا وسياسة من جهة علاقته بالأخلاق والحرية مسألة ضرورية، فالليبرالية ليست مجرّد نظرية اتّساقا مع رؤية تحليلية للطيّب بوعزّة، بل هي منظومة مجتمعية تتجاوز الحقلين الاقتصادي والسياسي إلى حقل الإنسان ببُعده الأخلاقي.

والنسق الليبرالي المتوحّش ساهم في تدمير المقوّمات الأخلاقية للفعل الإنساني، وتفتيت أنساق القيم وإفراغ حياة الإنسان من المعنى، والليبرالية التي قُدّمت كمذهب مخلّص للبشرية لم تُحقّق الرفاه، بل عمّقت بؤس الأكثرية في العالم، وظلّت مقاصدها وعناوينها الدعائيّة الكبرى مثالية أبعد عن الواقع المحكوم بجشع رأس المال، الذي حوّل المجتمعات إلى فضاءات استهلاكية مادّية لا يُحتكم فيها لأيّ قيم إنسانية.

ولم تتغوّل الدولة، كما نظّر توماس هوبس، بل سيطر قانون السوق الحرّ والشركات النافذة عبر الحدود، وأصبح أصحاب المال والنفوذ المتحكّمين الرئيسيين في التدفّقات المالية والمضاربات الاحتكارية، وصُودر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية، حيث لم تعد تتحكّم في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأُخضعت للإملاءات من المؤسّسات المالية المانحة والخانقة حينيّا، وهو التّسويغ الأممي لاستعباد الشعوب واستغلال ثرواتها في عالمنا المعاصر الذي افتقد فيه الوعي الإنساني قيمه العليا الآفاقية.

عن صحيفة القدس العربي