أمّا وقد وُهب الناس النسيانَ، فقد صدق من حسبَ
الأيامَ تطوي كلَّ غريبة، وتنسي محدثاتُها كلَّ مصيبة، بيد أن محدثات الأيام وهي
تتبع بعضها بعضًا؛ قد لا تقوى على بعض من ماضي المصائب سوى أن تنحت في جسدها،
فتُضعف منه، دون أن تصهره، وفي هذا من الوجع ما لا يدركه إلا من عاناه، أو تفكّر
فيه بالقدر اللائق به من التفكرّ، فلا أنت بالذي تستغرقه المصيبة حقّ استغراقها،
ولا أنت بالذي ينساها، فتجمع إلى ألمها ذنب التقصير في حقّها، فكيف وهي نهاية
مَثَلٍ على أفاعيل بنات الدهر في الذين يتخذهم الله من الطيبين لابتلائه؟! ثم خُذ
بعد ذلك منهم سببًا للتفكّر في حكمته –جلّ وعلا- وما فيها من سرّ إرادة هذا
الوجود. فكيف وقد أُضيف إلى ذلك أن كان هذا المثل قد بسط لك من بياض كفّيه ما
يُعجز بياض نفسك وفاء وامتنانًا؟! وهذا قليل من حكايتي مع سحر المصري.
سحر المصري، أم مريم، ابنتها، وأم جهاد، كنيتها
التي لم تلق لها ابنًا، داعية لبنانية، عرفتُها قبل خمس عشرة سنة في بعض المنتديات
الحوارية في شبكة الإنترنت، ثمّ وقد تفرّق أكثر ما اجتمع لي من الناس حينها،
صرفتني عن معرفة مصائرهم السجون، وما نابهم من الأيام، فقد ظلّت سحر من القلّة
التي لم تنقطع صلتي بها، وأنا الخبير بقول البحتري "ولا أرى التجمّع إلا علّة
للتفرق"؛ قد غفلتُ عن قوله هذا، ولم أبصر -كما ينبغي لي أن أبصر- أيّ صورة من
القسوة سيتخذ التفريق هذه المرّة، فمع علمي بإصابتها بمرض السرطان؛ بقيت أرسل لها
آخر أيّامها جَزِعًا من انعدام الردّ، حتى أسفر القدر المخبوء، وتوفاها الله في
المستشفى، ثم ومن حينها، فلا أنا بالذي أنسته محدثات الأيام، ولا أنا بالذي وفّاها
بالدعاء المفتون بأوار النفس، المشبّع بلظى الدمع، وكم أحسن الزير لما سقى قبر
كليب، وكم استبانت لي أسبابه لما روى سيفه، ولولا أنّها مقادير يقبضها القدير
لأهلكت عجزي المصيبات، فهاك طرفًا من حكايتها معي.
منذ أن عرفتها، وقد تتابعت عليّ بعدها
الاعتقالات، فإنّني ما عرفتُ لها تغيّرًا. لا تحول مخالب الدهر -المقابلة لها
أبدًا في طريقها- بينها وبين الفضل الذي ظلّت فيه على سوية واحدة في الضيق والسعة،
فلا بعضُ ما ظنته عزاءً وعوضًا يقبل عليها قد غيّرها، ولا الضرّاء التي ما انفكّت
عنها بدّلتها، فلا أعلم، وقد قُدّر لي أن أسجن سنوات، لدى العدو، ولدى السلطة
الفلسطينية، أحدًا ما ترك أهلي من اتصاله وسؤاله كما فعلت هي من لبنان، مع أمّي،
ثم مع زوجي، وكأنّها في كل مرة، تعرفني لأوّل مرّة، وكأنّني في كل مرّة اعتقل
لأوّل مرّة.. دعني أخبرك أنّها سألت عنّي، واتصلت بأهلي، أكثر من الذين عرفتهم
كلّهم في حياتي مجتمعين، وقد خِلتُ لو أنّها كانت في بلادنا؛ ما قطعت أهلي يومًا
من زيارتها، ثم هذا طرف خلفه بحر!
طول اعتقالي لدى السلطة، وأنا من القلّة الذين
تأذّوا بالسجن لديها سنوات، اصطَنَعَتْ لي –سحر- أكثر ما كُتب عنّي، حتى كادت أن
تكون وحدها من يتكلّم عنّي، تسعى خلف كل مخبوء عن الناس في حكايتي، فتكشف عنه
الغطاء، وترفع عن وجهه اللثام، سواء أ كان أذى أُصِبْتُه، أو بلاءً –كما حسِبَتْ-
قدّمْتُه، أو فضيلة –بد لها- أنني اقترفتُها، ولا فرية عنّي إلا وَسَعَتْ تبطلها،
وحدها تقريبًا، في حين أنّ هذا واجب غيرها، ممن ينبغي أن يكون ألزم به وبغيره مما
فعلته، كاتصالها بمن قدرت على الوصول إليهم من مؤسسات وشخصيات حقوقية عربية
ودولية، حتّى ما ظلّ عنّي من أثر تلك الأيام في غالبه هو من صنيعها..
فهاك هذه وحدها نعمة منها، حاجَجَتْ بها –عنّي-
ألسن العسر، ودافَعَتْ بها –عني- واحدة من عاتيات الدهر، حتى كادت أن تغطي بذلك
تلك العادية، وتمسح من نفسي مرارة الإحساس العميق بخذلان من تنكب عن واجبه، ثم هاك
فقارن، ولولا سماحة جُبلْتُ عليها –تغالب حدّة وأنفة فيّ-، ولولا قلق وخطر
يَسْكُنُ الوقتَ، لقلت لك من تلك المقارنة أكثر، لتعلم كم من أخ لك، لم تلده بلدك،
ولم يصحبك في مدرسة ولا جامعة ولا مسجد، ولم يقاسمك قيدًا ولا خيمة اعتقال، ولم
يلازمك طريق نضال.. فهذا الأخ، وقد أخلاه الله من هذا الواجب لغيره، حقيق وحده
بالشكر، وقد أعطاك وهو يحسب أنّه مقصّر، في حين يمنّ عليك من أقيم في الواجب وهو
مقصّر!
ثمّ وقد خرجتُ من عند السلطة، خَلِق المال،
معدوم الوظيفة، وقد طالت دراستي الجامعية الأولى حتى بلغت أحد عشر عامًا،
تشاركَتها السجون وحاجات المرء ومطاردات العدوّ، وأنا معيل لأيتام، فما علمتُ
أحدًا، حينها، سعى سعيها في تدبّر عمل لي، فيا عجبًا لحالي من حال يقلّ فيه
الصديق، فتسدّ النقص هيَ، ويتوهمُ العارفَ بي حاليَ على غير ما هو عليه، فتعرفه
هيَ على ما هو عليه، فلا ما أصابها من نعمة، ولا ما مسّها من ضر، ولا نأي المسافة،
حال دون سؤالها أو دون معرفتها أو دون سعيها، وقد حيل بين القريب –بإرادته أو
بطويته- وبين ذلك، وبين شريك الطريق ذاتها وبين ذلك، وإنّك تجد شريكًا يستكثر عليك
نعمتك المتحقّقة أو المتوهمة، وتجد "غريبًا" يسعى لك في مزيد من الأنعم،
فإن لم تجدد الوفاء لهذا الأخير، حتى لأوائل صنائعه، وكأنها صنائع اللحظة، فلمن
يتجدد؟!
تُوفيّتْ – رحمها الله- وقد أرادت استكتابي
للتوّ لمجلة تصدر عندهم في لبنان، وكانت قبل ذلك رَغِبَتْ منّي أن أكتب شيئًا من
قصتي في تلك المجلة، وكان آخر حديث بيننا، قبل أن تغيّبها المستشفى، ويخلو البريد
من ردّها، عزيمة أبدتها لي، كي تحدّثَ بعض معارفها في إحدى الجامعات اللبنانية؛ إن
أمكن أن أكمل دراستي العليا بالمراسلة، لأنني ممنوع من السفر، ولا أعلم أحدًا
قبلها ولا بعدها، خطر فيه هذا الخاطر غيرها، حتى لدى أولئك الذين يُفترض فيهم أن
هذا بعض واجبهم نحو أمثالي، ثم وإنّ ذلك لم يمضِ، لبقائه في نفسي لا يخَلَق، قد
مضت هي، وتركت لي صفوة من معارفها وأهلها، تمدّني بهم، كالذي لا ينقطع خيره حيًّا
وميّتًا، فأكرم بها من كرامة!
وما وجدتُّ شيئًا أصدق في رثائها –في ذكرى
وفاتها الثانية - من هذا الجانب الشخصي، وهي الداعية والكاتبة والمرشدة الأسرية،
بيد أنه يجدر بيَ القول، إنها وجدت فيّ سبيلها إلى فلسطين وبيت المقدس، فما كان
القليل الذي سبق وصفه، إلا جهادًا منها في هذا السبيل، وصورة عن تعلقها بهذه
البلاد التي نحن فيها وأهلها، فرحمها الله، وكم صدق لبيد لو أنّ قوله هذا كان فيها:
إن الرزيئة لا رزيئة مثلها * فقدان كل أخ كضوء
الكوكب