ثمة أمر غريب يجري في روسيا: استطلاعات الرأي التي عادة ما تأتي
نتائجها لصالح الحكومة تسجل هذه الأيام تراجعا كبيرا في شعبية الرئيس فلاديمير
بوتين. ورغم أنه يبدي قوة متنامية على الصعيد الدولي، يبدو أن بوتين يتعرض لضغوط
في الداخل لتخفيف حدة الإصلاحات التي أقرها في نظام المعاشات والتي من شأنها رفع
سن التقاعد بدرجة كبيرة.
من
جانبه، وافق البرلمان، مؤخرا، على نحو مبدئي على مقترح إصلاح المعاشات. كما مد
المهلة التي سيقبل خلالها تعديلات على المقترح لمدة شهر. ومنح ذلك لبوتين فرصة
التخفيف من حدة بعض عناصر الخطة الأولية، والتي من شأنها رفع سن التقاعد للنساء
إلى 63 عاما من 55 عاما وللرجال إلى 65 عاما من 60 عاما. ثمة رفض شعبي واسع لهذه
الإجراءات. وتبعا لما أعلنه «مركز ليفادا»، آخر المراكز المستقلة المتبقية في
البلاد المعنية بإجراء استطلاعات، فإن 89 في المائة من الروس لديهم «نظرة شديدة
السلبية» أو «سلبية إلى حد ما» تجاه رفع سن التقاعد. وبالمثل، يتفق غالبية الروس
على ضرورة عدم إدخال أية تعديلات على سن التقاعد، رغم حديث المسؤولين عن أن معظم
دول العالم تلزم مواطنيها بالعمل لفترات أطول.
وقد
يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للكرملين أنه حتى جهات إجراء استطلاعات
الرأي التي تعمل بصورة وثيقة مع فريق العمل المعاون لبوتين، مثل «في تي إس آي أوم
إم» المملوكة للدولة و«إف أو إم» المتعاقدة مع الحكومة، تسجل استطلاعات الرأي
الصادرة عنها تراجعا في معدلات الثقة بالرئيس منذ الإعلان عن مقترح تعديل سن
التقاعد منذ شهر.
وقد
يوحي الكشف عن هذه البيانات المتعلقة باستطلاعات الرأي عن غياب الاتفاق داخل صفوف
المؤسسة الحاكمة، بل وربما حكومة بوتين والعاملين معه، بخصوص مقترح التقاعد. من
ناحيته، دائما ما أبدى بوتين تفضيله للتوجهات المالية المحافظة عن توسيع نطاق
البرامج الاجتماعية. إلا أن الجدال الدائر حول مقترح المعاشات بدأ يكتسب معنى
جديدا. وإذا كانت هذه آخر فترة رئاسية لبوتين، فإنه يقدم خدمة جليلة لمن سيخلفه
بتحمله مغبة اتخاذ هذا الإجراء الضروري والمرفوض شعبيا بشدة. إلا أنه قد يؤدي إلى
الإطاحة بأنصاره من السلطة بمجرد خروجه من الرئاسة.
وتبدو
المخاوف واضحة على نحو خاص في الأقاليم الروسية، حيث بدأ بعض الأعضاء البارزين في
حزب «روسيا الموحدة» الذي يتزعمه بوتين في التعبير عن انشقاقهم علانية، أو على
الأقل حاولوا تجنب إظهار تأييدهم للخطة الحكومية. وتبعا لما كشفته «مؤسسة سانت
بطرسبرغ للسياسات»، فإنه بصورة إجمالية أبدى 12 من العناصر المؤلفة للاتحاد
الفيدرالي الروسي رفضهم للخطة الحكومية، مما يعتبر بمثابة استعراض للتحدي والرفض
غير مألوف في الدول الاستبدادية.
ومع
ذلك، فإنه حتى هذه اللحظة تبدو مخاوف المسؤولين المؤيدين لبوتين مبالغا فيها، ذلك
أنه رغم السخط العام إزاء إصلاح المعاشات، ظلت الاعتراضات واهنة، خاصة أن الأحزاب
اليسارية والنقابات العمالية التي توالي الحكومة بوجه عام ليس لها تأثير كبير في
الشارع. واللافت أن أليكسي نافالني، الذي يتزعم قضية محاربة الفساد في روسيا وزعيم
المعارضة صاحب الشعبية الأكبر، تناول مسألة إصلاح نظام المعاشات، معربا عن اعتقاده
بأن محاولات الحكومة لتوفير الأموال لا يتعلق بالمشكلات الديموغرافية في البلاد،
بقدر ما يتعلق بغياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد وإعادة هيكلة الإنفاقات
الحكومية. إلا أنه حتى خبرة نافالني في تنظيم المظاهرات أخفقت في خلق زخم ملموس
على مستوى الشارع.
ومع
هذا، فإنه لدى تطلعهم نحو الأمام، لا يسع أنصار بوتين الذين يتطلعون نحو التشبث
بالسلطة بعد عام 2024 عندما تنتهي الفترة الرئاسية الرابعة لزعيمهم القوي، سوى
ملاحظة أنه في الوقت الذي لا يبدي الروس سخطا واضحا تجاه الأوضاع الاقتصادية،
فإنهم يبدون تقديرا أقل يوما بعد آخر إزاء أداء الحكومة. وإذا ما تعمق هذا التوجه
عبر إجراءات مثل رفع سن التقاعد، فإن القيادات السياسية الحالية لن تفلح في اجتذاب
الناخبين سوى بالقمع والاحتيال الانتخابي.
في
أعقاب إعادة تنصيبه على عرش البلاد (أو إعادة انتخابه، مثلما يحلو للكرملين وصف
الأمر) في مارس (آذار)، أبقى بوتين على كامل حكومته تقريبا، وسمح لها بإتباع
سياسية مالية شديدة المحافظة. وترمي خطة الموازنة الحالية وأيضا المتعلقة بالسنوات
الثلاث المقبلة حتى عام 2021 إلى تحقيق فائض بالموازنة، وقررت الحكومة توفير أي
عائدات إضافية من سعر النفط فوق 40 دولارا للبرميل (يتجاوز السعر حاليا 70 دولارا
للبرميل).
وتتوافق
هذه الرؤية مع السياسات التي اقترحها أليكسي كودرين، وزير مالية بوتين السابق
والمستشار الاقتصادي المؤتمن لديه والذي يترأس حاليا «غرفة المحاسبة» التي تمثل
وكالة السيطرة المالية بالبلاد. ولطالما دعا كودرين إلى رفع سن التقاعد. ومع هذا،
يشعر ببعض التوتر إزاء الإجراء المقترح. كانت «غرفة المحاسبة» قد دعت إلى تقديم
توضيحات بخصوص الإصلاح تكشف أن رفع سن المعاش سيؤدي إلى معاشات أكبر، والتي تبعا
لكودرين سوف ترتفع بنسبة 30 في المائة.
أما
بوتين الذي يميل دوما لتقليص النفقات إلا عندما يتعلق الأمر بمشروع مفضل لديه يخدم
مصالحه الخاصة، مثل إعادة تسليح القوات المسلحة أو عقد مسابقات رياضية كبرى،
فيواجه معضلة: هل ينبغي أن يتشبث بالمقترح الحالي على أمل أن الروس سيعتادون فكرة
التقاعد المتأخر بحلول عام 2024، أم ينبغي أن يخفف حدة المقترح؟ ربما لا يكون من
الكافي رسم مسار واضح نحو زيادة المعاشات، مثلما يقترح كودرين، لاستعادة شعبية
الرئيس بالداخل واسترضاء الحلفاء الإقليميين.
علاوة
على ذلك، فإن التكتيك السياسي الساعي لرسم صورة بوتين باعتباره يتصدى للغرب يبدو
أنه استهلك لأسباب منها أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتصرف نحوه بصورة ودية
للغاية، ويبدو التحالف الغربي مفككا. وعليه، فإنه بدلا من التركيز على الحروب
الخارجية على امتداد فترة رئاسته الثالثة، قد يتعين على الرئيس الروسي الشروع في
الاهتمام بصورة أكبر بالصعيد الاقتصادي الداخلي إذا رغب في بقاء النظام الذي بناه.
الشرق الأوسط اللندنية