من الأخطاء التي يلاحظها من يقرأ بعض الكتب التي تحدثت عن تاريخ الإخوان والجماعات الإسلامية في خلافها مع الأنظمة، والمختلفين معها، أو المهاجمين لها، أنها جعلت الخلاف السياسي – أيا كان درجته – خلافا عقديا، وأنه حرب على الإسلام.
وهو أمر خطير جدا، للأسف يقع فيه بعض من يتناول تاريخ الجماعات الإسلامية مع الأنظمة، فهذه خلافات يحكم فيها بالصواب أو الخطأ، أو الحل والحرمة، وليس بالكفر والإيمان.
إلا ما كان واضحا فيه العداوة للدين لا الجماعات بشكل لا يقبل الشك، فأمور العقيدة أمور يقينية لا يحكم فيها بمعايير يتطرق إليها الشك، فالقاعدة الإسلامية المهمة:
اليقين لا يزول بالشك، واليقين هنا هو إسلام الأنظمة، أو الحكام، والشعوب كذلك، والشك هنا هو تحولهم عن الإسلام، وكي نحكم بذلك عليهم لا بد من دليل يقيني لا يحتمل الشك، ولا بد كذلك من أدوات لهذا الحكم.
وبداية: نحن لا نقر أبدا التجاوزات التي حدثت من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، والتعذيب الذي نال كرامة المواطن، والتجاوزات التي لا يقرها شرع، ولا قانون، ولا عقل. ولا أنكر ولا ينكر عاقل: أن المستفيد من وراء أي خلاف داخلي في بلد عربي أو مسلم، هو الصهيونية والمشروع الاستعماري والتغريبي، هذا أمر معروف ومسلَّم به، ولكن من الخطورة أن نبحث عن المستفيد من الخلاف، ثم نرمي بأحد الأطراف بانضمامه إلى جانب المستفيد عقيدة.
ولكن هناك خطأ في التفسير التاريخي لبعض خلافات أشخاص أو أنظمة مع الإخوان أو الجماعات الإسلامية، فأسهل تفسير أنه عداوة للدعوة الإسلامية، وربما الإسلام، متغافلين عن أسباب شخصية كثيرة يمكن أن تكون وراء الصدام.
وهذا أمر يلحظه المتعمق في قراءة هذا التاريخ، الملم به من أطراف أخرى مع كتب الإخوان، رغم أن الباحث المنصف عند التأمل المتجرد ربما وجد تفسيرا آخر، يختلف تماما عن هذا التفسير، وربما يضاف إليه في بعض المواقف، فعداء حزب الوفد – مثلا - للإخوان هي عداوة حزبية، وليست عداوة دينية، ولا حربا على الإسلام. ولا بد من تناول جميع أوجه الخلاف وأسباب العداوة، كي نكون موضوعيين في التناول والطرح.
وقد كان كتاب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي يعتمدون هذا المبدأ مع الخصوم، فتجد ـ مثلا ـ عند كلام المؤرخين عن أبي جهل وهو عدو للإسلام، بارز العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، يفسرون أسباب العداوة تفسيرا شاملا منضبطا، فلا يصبون السبب الرئيس في كفر أبي جهل فقط، بل يبحثون عن دوافع هذا الكفر، يقول تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الأنعام: 33.
وقول أبي جهل: "سقوا فسقينا، وأطعموا فأطعمنا، قالوا: منا نبي، فأنى لنا بهذا؟!"، هذا مع الكافر الواضح الكفر، أما مع مسلم في خلاف سياسي، وتصارع على من يصل إلى سدة الحكم ـ بغض النظر عن هدفه من الحكم ـ بأن نجعله خلافا بين مسلم متمسك بدينه، وعدو محارب له يبغي محو دينه، فهو خطأ منهجي ينبغي الحذر منه.
ومن ذلك الخلاف مع عبد الناصر، فلو كان الخلاف بين عبد الناصر والإخوان على الإسلام، أو كان طرف منهما يمثل الإسلام والآخر يمثل الكفر، لوجب على الإخوان بهذا القول الخروج على عبد الناصر بالسيف، فما دام المستهدف هو الإسلام، واستئصال هذا الدين، فماذا بقي حتى لا يخرج المسلم بسيفه على حاكم يريد القضاء على دينه، ومحوه؟! وهو ما دعا الجماعة وهي في السجن عندما أطلت فتنة التكفير برأسها إلى إصدار وثيقتها المهمة: (دعاة لا قضاة)، مما يدل على أن الخلاف كان خلافا سياسيا، ولم يكن خلافا على الإسلام، وهو ما يتناساه البعض في الكتابة عن الصراع بين عبد الناصر والإخوان، فيعنونون له بـ: الخلاف بين الدعوة الإسلامية وعبد الناصر، ولو جعل عنوان الخلاف: بالخلاف بين دعوة الإخوان وعبد الناصر، لكان مقبولا.
وهناك أمر آخر متمم لما سبق؛ ينبغي لمن يتناول تاريخ الإخوان والجماعات الإسلامية ألا يقع فيه، وهو عدم إغفال الجانب الشخصي في المواقف والأحداث، فمثلا لو تأملنا موقف أديب كبير كالأستاذ ثروت أباظة من جماعة الإخوان، ولماذا يُكِن كل هذا البغض للإخوان، فقد كان أباظة من كتاب مجلات الإخوان، وقد كان ينشر عمودا في إحدى مجلات الإخوان وهي مجلة (الدعوة) في إصدارها الأول سنة 1951م، تحت عنوان (مرايا)، ويمهر اسمه: بثروت أباظة المحامي، فما الذي وتر هذه العلاقة وجعله ينقلب انقلابا حادا، لأن بين ثروت أباظة والنقراشي نسب، فأخوه (شامل أباظة) متزوج من ابنة النقراشي، وهذا بلا شك يفسر سر هذه العداوة، لماذا يكره الأديب الكبير الأستاذ ثروت أباظة الإخوان.
وكذلك الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، وقد كان ممن لهم صلة بالشيخ حسن البنا، وأهدى له كتاب (الفلسفة القرآنية) عند صدوره، وما كان من البنا إلا أن قدم عرضا للكتاب، ونشر مقدمته في مجلة (الشهاب)، ثم فوجئ الإخوان وهم في معتقل الطور سنة 1949م بمقال للعقاد شديد اللهجة ضد الإخوان، وحسن البنا تحديدا، يتهمه فيه بأنه ماسوني، وسبب ذلك: صلة العقاد بالنقراشي، فقد كان صديقا للعقاد، وكان على صلة كذلك بإبراهيم عبد الهادي الذي ساهم في قتل حسن البنا، وكان عبد الهادي يصل العقاد ويحاول مساعدته ماديا.
والشيخ أحمد شاكر نفس الموقف فقد كان صديقا للنقراشي، ولذلك كتب مقالا شديدا عند مقتل النقراشي يهاجم فيه جماعة الإخوان، فليست مواقفهم عن عداوة للدعوة الإسلامية، بل عن عداء وخلاف سياسي مع جماعة مسلمة، وليس مع الإسلام نفسه، ولا مع دعوته، هذا ملاحظة مهمة ينبغي الحذر من الوقوع فيها، لأنها تتكرر في وقتنا الحالي كذلك للأسف، مما يجعل طرح صاحبه طرحا سطحيا.