لدينا اثنان وعشرون رئيساً وملكاً عربياً منصوراً مظفراً مكللا بالمجد والغار، أقل أو أكثر، فلم نعد نعرف عروبة بعض الدول العربية من عجمتها. تعالوا، بعد الاعتصام بحبل الله جميعاً، إلى اقتراح فريق كرة قدم من هؤلاء الملوك الأقيال الصناديد؟ تعالوا نفرش آلات الخيال الصدئة، على أرض الواقع المهتزة.
عندي اقتراحات، لكني أشك في أنّ شروط النشر تسمح باقتراحاتي، عدا عن أنه لن يعقلها أولو العقل والنُهى، فلن يستطيع الجري في أرض الملعب، وهي أرض مستوية مثل صفحة الكتاب، وناعمة، حريريها العشب، سوى رئيسين عربيين. وفي ظنّي أنّ زعيماً عربياً واحداً يلعب
كرة القدم في ملعب السياسة بمهارة عن فريق كامل، بعضهم لا يقوى سوى على تحريك عضو واحد من جسمه الكريم، أو عضوين، هما اللسان والقلب، فلا يذهبن بالقارئ الخيال وآلاته بعيداً عن "المرمى". العرب حالياً لا يفكرون سوى في مرمى واحد أو اثنين: هو مرمى لقمة الطعام، ومرمى لقمة اللذة الأولى، ويقع مرمى اللذة تحت مرمى اللقمة برمية حجر من غير رمي. ارمِ فداك أبي وأمي.
بعضهم لن يرضى باللعب إلا بعد تركيب عجلات لكرسيه؛ الذي لن يرضى بمبارحته، خوفاً من انقلاب، وتركيب عجلات للمرمى، وعجلات للكرة وهي عجلة مثالية، وأن تكون الريح مسخّرة بأمره، وأن يكون مرمى الفريق الخصم واسعا، من أدنى الركن الأيمن إلى أقصى الركن الأيسر، وأن يكون حكم الساحة إيفانكا أو شاكيرا من أجل تنشيط الدورة الدموية في جهاز رمية الحجر الميمون، وأن يكون الجمهور كله من الحرس الرئاسي والمخابرات.
طبعاً هذا الكلام لا يمكن أن يقبل في أي صحيفة تصدر في بلد عربي، فالرئيس العربي لا يلعب سوى بشعبه ودولته، هو لا يخرج من صومعة الجدّ، ومن غرفة إدارة المعارك. اقتراح مثل هذا حكمه لا تقل عقوبته عن تأبيدة، أو تجديد الحبس كل 45 يوماً، كما يحدث لزميلنا محمود حسين، مانديلا الحبس الإداري.. والحبس الإداري توصيف إسرائيلي نقل إلى مصر تحت اسم تجديد الحبس إلى أن تقوم الساعة. ساعة أوميغا طبعاً، لذلك سنعطّل آلة الخيال إلى حين، ونعود إلى سبخة أرض الواقع المهين.
في الحكايات والأخبار العربية، أنّ الخلفاء والملوك كانوا يتنكرون لمعرفة أحوال الرعية، وكانت الرعية في خير، والتنكر لا يحتاج إلى أصباغ وأدهنة وأزياء، فما على الخليفة أو الملك سوى أن ينزل إلى السوق مع السيّاف أو مع خادمه أو مع حاجبه، من غير أبهة الملك والسلطان، فلا بد من السياف، واسمه في هذه الأيام "بودي غارد"، بل إن الخلفاء الراشدين خالطوا رعيتهم من غير أن يعرفوا، وقال الخليفة العادل عمر بن الخطاب للمرأة التي كانت تطبخ الحجارة لأطفالها: تعالي غداً إلى أمير المؤمنين وستجديني عنده. ولم يعرف مجنون بني عجل الحجاج الظالم إلا بعد أن أحاقت به جنود الحجاج فقال له ما قال.
أما زيارات الرؤساء والملوك المعاصرين، وهم أيضاً يسهرون على راحتنا وكأنها راقصة سهر الليالي، فلها تنكر مقلوب، فالمدن المزارة تزوّر، فهي التي تتنكر للرئيس، والشعوب تغيّر جلدها، وتقلب حزنها سرورا، الرئيس لا يزور إلا مدججاً بكل أسلحة الدولة الموقرة، براً وبحراً وجواً.
وفي زيارة الرئيس بشار الأسد، راعي المعلوماتية المحظورة وخريج جامعات بريطانيا، للقامشلي سنة2011، كانت بلدية المدينة تجري إصلاحات على شبكة المجاري في خطة التطوير والتحديث، وتبيّن أن خطأ قد وقع في مناسيب الارتفاع بين المجارير الأسطوانية تحت الأرض. ظهر للمهندسين النشامى أن الصرف "الصحي" لن يخرج خارج المدينة المنصورة المظفرة، لا بقوانين الجاذبية الأرضية، ولا بقوانين جاذبية الرئيس، وكان قد حان الموعد والوعيد، فطمرت خنادق المجارير كلها، وخسرت البلدية مبلغا كبيرا، وعبدّت المدينة بسرعة البرق، ولوّنت الشوارع وازدانت بالأعلام، وأحضرت أشجار زينة زرعت على عجل ستقتلعها نسائم الهواء، حتى تظهر المدينة وكأنها فاضلة، وأنها مدينة الشمس، كامبانيلا، وأن كل شيء على ما يرام ويشتهى، في ظل الرئيس الخَضِر.
نصر كرة القدم العربية، الذي دقت له الطبول، هو قناع هزيمة الرأس العربي.. الحكومات العربية التي أهملت
الرياضة في المدارس إهمالاً تاماً (فنحن ندرس كل المواد، نحفظها من غير وعي وفهم من أجل العلامة والدرجة)، سعتْ إلى جعلها أهم مادة في رفعة الأمة وعزتها والسيادة بعد الرئيس والجيش. ثم كان أن رأينا كرامة العرب ممرغة بين الأقدام، وشاهدنا ذلك اليمني يحطم شاشات التلفزيون بالفؤوس بعد إخفاقنا في كرة القدم، فالقدم التي تشوط الكرة تابعة للرأس.
وكان الصديق ماهر شرف الدين قد غرد تغريدة قال فيها: منتخب مثل البرازيل حاز الكأس خمس مرّات يصف حاله بوصف "راقصي السامبا"، ومنتخب مثل الأرجنتين، مطالع ميسّي ومارادونا، يسمي حاله "براقصي التانغو"... بينما المنتخبات العربية الخاسرة كلها "أسود الأطلس" و"أسود الرافدين" و"نسور قاسيون" و"نسور قرطاج" و"الصقور الخضر" و"ثعالب الصحراء".
فنحن عندما نلعب نحارب، وعندما نحارب نلعب.
في كرة القدم، المعلّق الرياضي هو اللاعب الثالث عشر، يتهدج صوته، ويكاد أن يطلب من الجماهير الزحف لنجدة الفريق، ويستطيع أن يحوّل الهزيمة إلى نصر: معليش، خسرنا بشرف، مؤامرة، نحن نلعب جيداً لكن الحظ لا يلعب معنا، الحكم متآمر. أما الحرب، ويديرها أيضاً معلق رياضي مثل أحمد سعيد، فيجعل البحر طحيناً، والماء خمراً أندرينا، ويتبين لنا بعد سنوات أن الحرب كانت حرب تحريك، لا حرب تحرير. وفي أحوال أخرى نجد أن النصر كان متنكراً وهزيمة نكراء.
ويح العرب وهم يطلبون العزّة من قدم لاعب كرة، وقد تجمدوا أمام الشاشات فاغري الأفواه، خاشعة أبصارهم، يدعون الله متضرعين، بالأدعية والأذكار، أن ينجد فريقهم بالنصر المبين.
والسؤال كم كان سيدوم أثر النصر الكروي؟ ربما عشية أو ضحاها، ثم نعود إلى حياتنا القاسية الذليلة، كرة مسحوقة تحت الأقدام، لن ينفع أن نقف أمام الشرطي وهو يهيننا فتقول له: نحن شركاء النصر في العزة الكروية. فهذا الكلام لا يؤكّل في الضحى ولا في العشية.
في معركة بدر الكبرى، مدَّ ربُّ العزة جنوده بألف من الملائكة مسومين،أمارئيس الكفتة، فمدَّ جنده بفريق من الفنانات والمذيعاتمعلفات أحسن تعليف وغير مغلفات.
فريق كهذا يليق به مشجعون كذاك، ومشير كذلك. وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ.