تعاليت وحدك أيها الفلسطيني الشهيد، وارتقيت في سماء الله، ولم تجفل لأنهم باعوك، وخذلوك، وخانوك، وتركوك وحدك طعاما للنيران، فالحق يدفئ قلبك، والنور الذي حملته من وطنك إلى وطنك عبر السياج، لن تنطفئ ناره أبدا، فدمك يحيينا من موات طال واستطال، وفي كل قطرة سالت من دمك، سوف تنبت شجرة الحلم من جديد، وسوف توقد شعلة، يحملها فتية الوعد جيلا فجيلا.
وليست هذه أول مرة يتركون فيها الشعب الفلسطيني وحيدا، بل لعلها أكثر مرة والأقصى والأقسى، فقد أدار الكل ظهورهم لفلسطين ولحقوقها وعدالتها ونبلها، وأشواقها وأوجاعها، وخرائطها الممزقة بالسكاكين، فلا فاعلية منظورة لمجتمع دولي، ولا لمجتمع إسلامي ولا مسيحي، ولا لمجتمع عربي، حيث تبدو العروبة غريبة مهجورة لقيطة، لايريد أحد نسبها، فهي عبء على ترديهم في بئر الخطايا، وحيث لا وجدان ولا تضامن، ولا مصائر ولا مصالح ولا نخوة، بل بيع الذليل إلى المذل، وطلب رضوان ترامب لا رضا الله، وتقديم الهدايا بمئات مليارات الدولارات تحت قدميه، وسؤاله أن يعفو ويغفر ويرعى ويحمي، فالأمة التي ماتت مشاعرها في الغيبوبة، تعجز أن ترفع عن وجهها ذبابة، وتخرس عن النطق بالحقيقة، ويصنع أقدارها طغاتها، وهم أسود علينا، وفي الحروب أسراب من الفئران.
يسرقوننا فنسكت، ويلقموننا أحذيتهم فنبتلع الطين، ولا يبالون لا بمقدسات ولا بمحرمات، فهم الهمج التبع لهمج إسرائيل، يريدون لإسرائيل أن تنتصر لهم، وأن تمحو اسم فلسطين من الخرائط، ويحاصرون الشعب الفلسطيني كأنهم كفار قريش، يمنعون عنه الماء والغذاء والكهرباء والدواء، وكأنهم في غيهم، لا يقرؤون حرفا من عبرة التاريخ ولا سنن الزمن، فإن سعيهم مهما طال واستبد وراوغ، سوف يخيب بالحتم، فشعب الأنبياء لا يهزم أبدا، ولا يفنيه قتلة الأنبياء، وهو يولد ويتناسل، ويقوم دائما من رماده، لا تغادره قداسة الروح ولا كلمة الخلق، ففي البدء كانت الكلمة، وفي البدء كان الدم، ودم الفلسطينيين يصنع المعجزات، ويهزم السيف والظلم لا محالة.
نعم، اتركوا الفلسطينيين وحدهم كما تشاؤون، وبيعوا وخونوا واخذلوا، وتراجعوا واصمتوا وانفروا خفافا وثقالا لطاعة ربكم الأمريكي وسيدكم الإسرائيلي، واجعلوا الأمة كلها تصلي صلاة مودع، فلن يبلغكم ما تفعلون من قصدكم شيئا، ولن يغنيكم حكام البراميل، ولن تنفعكم صلاتكم لأمريكا وإسرائيل، ولن تطمس ذنوبكم، ولن تعفيكم من مصير الفضيحة في العالمين، فالذين حاصرتم وتركتم، وتصورتم أنهم سيهزمون من جوع ومن فقر ومن مرض ومن عوز للسلاح، ويقفون على أعتابكم طلبا لصفح التسويات والصفقات، هؤلاء لهم وجهة أخرى وقبلة أخرى، لا يخشون الموت ويطلبون الشهادة، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، والذين لا يهابون الموت تكتب لهم الحياة، وقد كانت تلك سيرة الفلسطينيين منذ زمن النكبة الأولى، يطردون ويشردون، ويلجؤون ويحاصرون، لكنهم لا يفنون أبدا، وفي لحظة الفصل، لا يتراجعون ويثبتون فوق أرضهم المقدسة، يعيشون ويكبرون ويتذكرون، ويزرعون البرتقال والزعتر وشجر الزيتون، وتهبهم أرحام أمهاتهم للوعد الذي لا يكذب أبدا، فهم الجند والشهداء والخيل والأغاني، وهم أطفال المهد الذين يعشقون تراب اللحد، واثقون من نصر الله الذي لا يخلف آياته، فسوف يعودون إلى الأرض التي أخرجوا منها، ويدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، ويتبروا تتبيرا.
لا نسبح في خيال، ولا نعد بالمحال، بل نتحدث عن واقع لا يخطئ مغزاه، فقد وصلت إسرائيل إلى ذروة ما يمكن أن تصل إليه، قوة عسكرية ونووية وتكنولوجية هائلة، واندماج استراتيجي مع أمريكا أكبر قوة في الكون الراهن، ودعم ظاهر وعلني ومفضوح من أنظمة عربية نافذة بمالها، وعهر في الهرولة إلى التطبيع مع تل أبيب، والتسبيح بحمد ومزايا الاصطفاف الخليجي وراء إسرائيل، وقرار باعتبار القدس عاصمة أبدية موحدة لكيان الاغتصاب، واستسلام عربي وإسلامي شامل، لا ينتقص من عاره استنكار، ولا بيانات تصدر، ولا مقالات تكتب، ولا مظاهرات تمضى على استحياء، وكل ذلك قبض ريح، وهوان بلا آخر، لكنه لا يعني أبدا نزول الستار، ولا نهاية القصة، بل قل إنها ابتدأت أو تكاد، ففي لحظة الزهو الخياني، تسقط الأساطير التي يصنعون، وتبدأ رحلة الدم من جديد، وتنجح «غزة» وحدها، وهي أصغر قطعة من فلسطين، في تحدي امبراطوريات الشر، وبغير سلاح ولا عون ولا مدد، ورغم الحصار الكافر، تنجح غزة في تحدي الطغيان بالصدور العارية، وبالأمل الذي لا يموت في القلوب، وباحتشاد الأجيال على عتبة السياج المزنر بالنار، وبدخان إطارات الكاوتشوك، وطائرات الورق المشتعلة، و«مقلاع» في أصابع، يرمى من حجارة الأرض، وجسارة شباب يحمل مفاتيح العودة الموروثة عن الأجداد، ولا يهاب الرصاص الحي، ولا اختناقات قنابل الغاز الهابطة من طائرات العدو في السماء، وبغير جزع من تتابع جنازات الشهداء بالمئات، وطوابير الجرحى والمعاقين بالآلاف، ومع الهول كله، تصمد غزة وتنتصر للحق، وتواصل انتفاضتها الفريدة على مدى أسابيع وشهور، وتنادي غزة الصغيرة كل قطعة أرض، وكل تجمع بشر، بطول وعرض فلسطين، وتحفزهم على الالتحاق بانتفاضة الروح، من القدس إلى الجليل إلى بيت لحم ونابلس والخليل وأريحا ورام الله، فقد زالت الحدود والفواصل التي أرادوها، واجتمعت الروح الفلسطينية على الهدف الذي طمسوه، فلم تعد القصة في دويلة الضفة وغزة، ولا في أوهام حكم ذاتي تحت حراب الاحتلال، بل عادت قضية فلسطين إلى سيرتها الأولى، بلدا بكامله محتلا من النهر إلى البحر، وصحوة روح لتحرير شامل تتعدد مراحله، تتحدى قوة إسرائيل بصلاة الروح وصلاة الدم، وتهزم السيف بدم الشهداء، وباستعداد للتضحية بلا نهاية، يعجز الطغاة والبغاة والغزاة عن فهم سره، وفك ألغازه، فها هو شعب بكامله يقرر أن ينتصر لحقه، حتى لو ظنوه وحيدا، فلم يعد شعبا من اللاجئين، بل شعبا من الحاضرين بكثافة فوق أرض الصراع وميدانه الأصلي، وباتساع فلسطين التاريخية، وبأعداد تفوق الآن عدد اليهود المستجلبين لمشروع الاستيطان الاستعماري، وهو تطور متزايد الأثر، يدفع شعب الأغلبية فوق الأرض المقدسة للثقة في النصر.
وبتحرك سلمي طويل النفس، يستنهض في النفس الإنسانية أنبل وأزكى ما فيها، ويحطم القيود، ويندفع في معركة وجود، لا يجزع الشعب الفلسطيني إن تواصلت عقودا، بينما تجزع إسرائيل التي تتصور أنها أفلتت بالغنيمة، وتقيم احتفالات نصر موهوم محكوم عليه بالهزيمة في النهاية.
وقد كانت «غزة» دائما هي قدس المقاومة، ومركز القداسة الإنسانية الفلسطينية، تماما كما هي «القدس» المدينة مركز البركة الإلهية، و«غزة» هي فلسطين مصغرة، وهي حاضنة الولادة الأولى لحركات المقاومة، ورغم حصارها الطويل الأبشع في تاريخ الحروب، ظلت غزة رمزا للعزة، وأعجزت إسرائيل عن تحقيق أي نصر في ثلاث حروب، هي الأطول قصفا وعصفا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كله، وقد كان إسحق رابين يتمنى أن يصحو من النوم، ويرى غزة «غرقت في البحر»، لكن غزة تغرق الآن في قلب فلسطين، وتمد نبضه بحياة جديدة، وتوقظ الأمل الغافي، فقد أرادوا لقضية فلسطين أن تنتهى إلى غياهب النسيان، وأن تتحول إلى مجرد صفحة في تاريخ زائل، وبدعوى أنه لم يعد من وقت لفلسطين، خصوصا مع تلاحق حروب مدمرة في المشرق العربي بالذات، حطمت أو كادت تحطم وجود سوريا والعراق، وعلى طريقة قطع شرايين الحس والاهتمام بفلسطين، التي كانت قضية العرب الأولى، وظنوا بما فعلوا، أنهم دفنوا قضية فلسطين، واستعدوا لقبول إسرائيل في جامعتهم «العبرية»، لكن الله أراد أن يخيب مكرهم السيئ، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فمكر التاريخ يوالي جولاته، وما أرادوه موتا لفلسطين، تحول إلى حياة وحيوية متدفقة لقضية فلسطين، وبفضل الشعب الفلسطيني وحده، وببركة «غزة» بالذات، التي اجتمعت عليها كل صنوف القهر، لكنها تصحو الآن، وترعب وتفزع إسرائيل، وتقلب الموائد، فقد أرادوها النقطة الأضعف، لكنها راحت تكشف عن قوتها الكامنة، وتقدم إبداعا جديدا في صورة «مسيرات العودة»، وتزف الشهداء إلى فلسطين الأم، وتقوم من الردم والأنقاض، وتعلي صوت الشهيد على أنين العبيد، تعاليت وحدك أيها الشهيد الفلسطيني.
القدس العربي