لم يتعرض رئيس فرنسي لاتهامات العدالة أكثر مما تعرض له "
نيكولا ساركوزي"، فسيرتُه حبلى بأكثر من قضية واتهام، وفي كل مرة يُفتح ملفٌ يخرج منه "
ساركوزي" شبهَ سالم، دون أن تُنهي العدالة كلمتَها، وتبقى القضايا مفتوحةً إلى آجال أخرى.. هي قصة استغلال الموقع، والاستفادة غير المشروعة، الشخصية والحزبية، وتوظيف الأموال لدعم الحملات الانتخابية بدون وجه حق، وبلا سند مشروع، كان آخرها توجيهُ القضاء الفرنسي يوم الثلاثاء المنصرم (20 مارس/آذار2018) اتهاماً بشأن قضية
تمويل ليبي لحملته الانتخابية الرئاسية لعام 2007.
وحدَه القضاء الفرنسي له الكلمة الفصل في إثبات الاتهامات أو نفيها وتبرئة الرئيس "ساركوزي"، لكن ما هو لافت للانتباه في هذه الواقعة، وجدير بالنظر والتأمل، قدرة القضاء في بلد ديمقراطي على إعمال سلطته لإقرار الحق وفرض احترام القانون وتحقيق العدالة، بغض النظر عن موقع المتهم، أو حظوته في المجتمع، أو نفوذه، أو أي اعتبار يمكن أن يشكل عائقا أمام سريان حكم القانون.. فالناس سواء أمام سلطان القانون وإرادة القضاء ونفاذ العدالة.. علاوة على ذلك، يتعزز حكم القانون، وانتصار العدالة، بيقظة الإعلام ومهنيته، واستقلاليته في إثارة القضايا دون خوف أو وجل، ودون خضوع للضغط وتأثير دوائر النفوذ. ففي هذه الحالة بالضبط، وغيرها من أشكال الاتهامات التي لم تفارق الرئيس الأسبق "ساركوزي"، كان للإعلام المكتوب الدور الريادي في الكشف عن المستور، وتحويله إلى قضية رأي عام، وفتح الباب أمام العدالة لتقوم بالواجب المطلوب منها، نحن مرة أخرى في بلد يمارس الإعلام فيه كامل استقلاليته، ويمتلك كل مقومات إرادته، وليس إعلاماً موجها لا بالترهيب، ولا بإغراءات المال.
قضى "ساركوزي" 26 ساعة رهن التوقيف الاحتياطي، أخضع خلالها لاستجواب بشأن تمويل حملته الانتخابية الرئاسية لعام 2007 من أموال ليبية. كما استجوبت الشرطة الثلاثاء 20 مارس/ آذار 2018 وزيره السابق "برايس اورتيفو" (Brice Hortefeux)، أما رجل الأعمال "الكسندر جوهري"، أحد مساعدي "ساركوزي"، فيسعى جاهداً إلى عدم تسليمه للسلطات الفرنسية بعد اعتقاله في لندن في كانون الثاني/ يناير الماضي لاشتباهه بالتورط في غسيل الأموال.
يُذكر أن قضية تمويل حملة ساركوزي الرئاسية لعام 2007؛ أثيرت أولا من قبل نجل
القذافي (سيف) مستهل آذار/ مارس 2011، وأكدها رجل الأعمال اللبناني، الفرنسي الجنسية، "زياد تقي الدين"، ومجموعة من المسؤولين السابقين في نظام "معمر القذافي"، وعلى رأسهم "بشير صالح"، الذي كان يدير صندوق الثروة السيادية الليبي وقتئذ. أما حجم التمويل، فوصل بحسب تقديرهم؛ إلى خمسة ملايين يورو.
التزم الرئيس الأسبق "ساركوزي" كعادته بنفي ما نُسب إليه، مشدداً على أن "مزاعم تلقيه أموالاً لتمويل حملته الانتخابية من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي جعلت حياته جحيما"، كما أدلى في أول تصريح له بعد انتها الاستجواب؛ بأنه لا وجود لأي دليل مادي من شأنه إثبات هذا الاتهام، على الرغم من مرور عدة سنوات على الواقعة، وإن كان "زياد تقي الدين" قد أدلى صراحة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، لموقع "ميديا بارت" الفرنسي، بأنه سلم في عامي 2006 و2007 ثلاث حقائب مليئة بأموال نقدية من فئة 200 و500 يورو إلى ساركوزي ومدير مكتبه "كلود غيان" (Claude Gueant).
لا شك أن القضاء الفرنسي في بداية طريقه لاستجلاء مدى صحة الاتهام الموجه لرئيس فرنسي عُرف بأسلوبه في الحكم، وفي التعامل مع غيره من الدول، وبخاصة الدول العربية. ففي العام 2005، حين كان وزيرا للداخلية في رئاسة "جاك شيراك"، أصدر مرسومه الشهير في شباط/ فبراير من العام ذاته، شدد فيه على أن للاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا حسنات وأفضالا على هذه المنطقة، مما أثار حينئذ ردود فعل متباينة داخل الأوساط السياسية الفرنسية وفي البلدان المعنية بهذا المرسوم. ثم إنه أول من تصدر حملة حشد التحالف الدولي بقيادة حلف" الناتو" للتدخل في الأراضي الليبية، وحصول ما حصل. والحقيقة أن قصص الرئيس "ساركوزي" مع الملفات والقضايا المثيرة للشبهات، والتشكيك، لا سيما في المجال المالي، كثيرة ومتعددة، وما زالت معظمها مفتوحة ومطروحة على أنظار القضاء.
يُنظر إلى ملف الاتهام الموجه إلى "ساركوزي" في قضية التمويل الليبي لحملته الرئاسية عام 2007، وفي غيرها من القضايا الأخرى ذات العلاقة باستغلال الموقع والسلطة، إلى أنها محك حقيقي للقضاء الفرنسي لتأكيد استقلاليته وتجرده وعدالته، كما يعتقد الكثير من الفرنسيين ويطالبون بذلك. ففي قضية التمويل الليبي، هناك طرفان: الرئيس الأسبق المتهم، وموقع "ميديا بارت" (Mediapart). وحتى الآن يبدو الطرفان متوازيين، أحدها ينفي عنه التهمة، والآخر يشدد على وجودها، ويسرب بالتدريج ما يثبت حصولها.. لا شك أن المجال السياسي الفرنسي يعيش مخاضاً منذ سنوات، وأن القوى الفاعلة فيه والمؤثرة في مجرياته، تعاني من الكثير من مظاهر التراجع والهشاشة، وضعف الرؤية الناجعة للسير بثقة نحو المستقبل. وكلها متغيرات من شأنها التأثير بشكل أو بآخر على مصير مثل هذه القضايا والملفات.. لكن المؤكد أن القضاء الذي كرس استقلاله منذ عقود، سينتصر في النهاية لسلطان القانون وإرادة العدالة.