(1)
كانت أمسية مملة، قضيت الليلة السابقة في تفكير مرهق، ومع بدايات النهار طرق النوم جفوني، في الوقت الذي التمعت فيه الفكرة التي كنت أفتش عنها، فاتجهت إلى المطبخ، أعددت كوباً كبيراً من الشاي مع كسرة خبز وقطعة جبن، وانهمكت بعدها في العمل لساعات طويلة، بين كوم من الأوراق وشرائط الفيديو المصورة وقصاصات من الصحف، حيث كنت أضع التصور النهائي لبناء فيلم وثائقي طويل عن جريمة قتل إسرائيل لأعداد كبيرة من الأسرى المصريين في حربي 1956 و1967، وهو الفيلم الذي التقيت فيه لأول مرة (وجها لوجه) بالفريق سعد الشاذلي، الرجل الذي لم يهرب من المواجهة.. مفضلاً السجن على المنصب الرسمي وحياة الرفاهية الكاذبة.
(2)
مع انقضاء النهار، فقدت تركيزي تماماً ولم تنفع معي القهوة ولا غيرها من المنبهات، مع عصيان تام من النوم أيضاً.. فتحت التلفزيون وتمددت على أريكة مريحة في المكتب الواسع، كنت بمفردي ولم أكن أنتظر أحداً، فجذبتني أحداث الفيلم الأجنبي الذي كان قد بدأ، وهو فيلم "حركة" من "أفلام الطرق" يحكي عن شاب كلاسيكي متأنق، يأخذ حقيبته الصغيرة وبداخلها أوراق المشروع الذي يحلم بتنفيذه، ويقود سيارته للحاق بموعد مقابلة مهمة يتوقف عليها تنفيذ "المشروع الحلم"، وفي الطريق تعوقه شاحنة ضخمة، لأن سائقها السيكوباتي الملول، رآه في المرآة وهو يحاول المرور منه، فأراد أن يتسلى بمنعه من المرور، بينما الشاب يبذل كل المحاولات لتجاوز الشاحنة حتى لا يتأخر على الموعد وتضيع الفرصة. وبالفعل ينجح عند أحد المنعطفات في خداع سائق الشاحنة، وينطلق بسرعة في الطريق الممتد الخالي من السيارات تقريباً، وهو يصرخ فرحاً ويرفع قبضته نحو سقف السيارة مهنئاً نفسه، ولم تمر دقائق قليلة حتى لمح الشاحنة في المرآة وهي تسرع خلفه كالوحش الرهيب.
(3)
دق جرس الباب، قمت متثاقلاً ونظرت من "العين السحرية"، كان الصديق عبد الستار الخضري، المخرج المسرحي المتميز الذي ارتبط بمسيرة الفنانة ماجدة الرومي، وقدم عددا كبيراً من المسرحيات تميزت بالتجديد في الشكل والمضمون، فتحت له مسرعا وعدت لمتابعة الفيلم، فقال ضاحكا: مالك سايبني وداخل جري.. فيه إيه جوه؟
قلت: بتابع فيلم أكشن عبيط، وانت جيت في لحظة تشويق.
أعد قهوته لنفسه ودخل يشاهد معي الفيلم الذي تحول إلى صراع قاتل، صمم فيه سائق الشاحنة على دهس الشاب بسيارته، فقد اعتبر "محاولة المرور" إهانة لا بد من معاقبة مرتكبها بالمحو والدهس. وبعد مغامرات متعددة بدأ وقود سيارة الشاب ينفد، ونجح سائق الشاحنة المختل في حصاره داخل منطقة جبلية حتى أصبح ظهره للجبل ووجهه للهاوية، حينها تغير سلوكه تماما، وفكر في المواجهة بدلا من الهروب، وصنع فخاً للشاحنة استخدم فيه سيارته الغالية، حتى نجح في تفجير الشاحنة، وجلس بملابسه الممزقة وحيدا على صخرة عند حافة الهاوية، بينما مشاهد النيران والدخان تملأ السماء التي تتطاير فيها أوراق مشروعه، وتبتعد الكاميرا ليبدو الشاب نقطة صغيرة في وسط الدخان، وهو يجلس واضعا رأسه على راحة يده في هيئة تمثال "المفكر" الذي نحته رودان متخيلاً دانتي بعد رحلته في الجحيم.
(4)
لم أهتم بالتعليق على الفيلم، وكان واضحاً أنني أهتم فقط بمتابعة "الحدوتة" ومصير الصراع بين الشاب الطموح والسائق المختل، فقال لي بابيون (اسم الشهرة لعبد الستار الخضري): شكلك لسه فاكر أن الفيلم "عبيط"؟، الفيلم مش عبيط. انت اللي ما شوفتوش كويس، وبطريقته المحببة لنفسي، تحدث عبد الستار عن فلسفة التعامل مع مصائب القدر، مؤكدا أن الشاب كان يهرب طوال الوقت ليحافظ على ملابسه الأنيقة وسيارته ومشروعه، ويركز جهده فقط في اللحاق بموعد الطموح، وعندما هاجمته الشاحنة، ظل يهرب ويهرب، حتى أصبح مطالبا بالحفاظ على حياته نفسه، عند هذه اللحظة كان لا بد لهاجس الهروب أن ينتهي، كان لا بد من المواجهة، ساعتها لا يهم الموعد، ولا تهم السيارة، ولا معنى للملابس الأنيقة، ولا مجال لسماع الموسيقى المفضلة في السيارة المكيفة، لأن المواجهة تصبح هي المعركة، وفي المعركة تتغير كل الترتيبات، وتهون كل الخسائر.
(5)
عندما استمعت إلى تصريحات المستشار هشام جنينة في "حوار هافينجتون بوست"، لم أتصور للحظة أنه أخطا التقدير، ولم أفكر في التداعيات والمخاطر التي ستترتب على كلماته؛ لأنني عرفت أن الرجل المتمرد (مصاب العين والروح) الذي يتحدث الآن، ليس هو الرجل (الكلاسيكي) الذي كان حريصاً على وسادته قبل عام، وليس هو الرجل (المتأنق) الذي قبل دفع الكفالة في قضية سابقة خوفاً من النوم على فراش خشن وقذر في زنزانة رطبة هددوه بها لساعات، لكنه الرجل الذي قرر المواجهة بعد رحلة طويلة من الحذر وتجنب الصراع، الرجل الذي وافق على الحوار والتصوير بهذه الصورة العفوية الشعبية، وافق في اللحظة ذاتها على الخروج من سجن "الحُلة الرسمية" و"الصورة الرسمية" و"اللغة الرسمية"، وظهر بملابس البسطاء، ولغة البسطاء، ومظهر البسطاء.. وكأنه حالة من حالات التعذيب في سجون الوطن المنكوب.
(6)
هذا التطور الدرامي للشخصية يعبر عن نقلة كيفية قادرة على إعادة ترتيب الوضاع بشكل مختلف؛ لأنها نقلة من السلبية إلى الإيجابية، نقلة من الهروب إلى المواجهة، نقلة من الهامش إلى المركز، ويمكن لكل منا أن يقيس ذلك على شخصيات روائية وسينمائية شاهدها كثيراً، لكنها تعامل معها باعتبارها حدوتة للتسلية أو التخلص من الملل، وربما تصور مثلي أنها "عبيطة"، لكن التحولات الإيجابية تظل هي الأجمل في الحياة، وتظل هي نبع الأمل في اي تطور منشود، هكذا تطور "حسن" في "سواق الأتوبيس"، وتطور "محيي" في رواية وفيلم "في بيتنا رجل"، وتطور "يوسف" في "البحث عن سيد مرزوق"، وتطور "فورست" في "فورست جامب" وأيضاً تطور "احمد سبع الليل" في "البريء".. فمتى يتطور بقية المنسحبين الهاربين في مغارة ملابسهم الأنيقة؟.. متى نخرج من سجون الذات، من سجون الخوف، من سجون المكاسب الفردية الصغيرة في زمن التحديات الكبيرة؟
مرحباً بالوعي.. مرحباً بالتطور.. مرحباً بالمواجهة.
#أدعم_جنينة
#نريد_الحقيقة
tamahi@hotmail.com
الشعب المختطف في الوطن المختطف
إقصاء عنان.. القاتل والخائن لا يتخلّيان عن السلطة!