ليل داخلي بمسرح للقوات المسلحة... المناسبة: ندوة تثقيفية تنظمها القوات المسلحة... البطل: وزير الدفاع المصري.
على طريقة الأفلام العالمية، نسج سيناريو المشهد المصري بيد حاذق في ليلة 23 حزيران/ يونيو، من خلال دعوة وجهها وزير الدفاع حينها ورأس النظام حاليا؛ للحوار الوطني بين القوى السياسية التي وصفها في تصريحاته بالمتناحرة، لتجنب خطر المواجهات والعنف المتوقع مع اندلاع مظاهرات المعارضة التي تحدد لها يوم 30 حزيران/ يونيو، وحذر من المساس بالأمن القومي المصري، مشيرا إلى أنه وقتها سيتدخل الجيش لصالح الوطن. وأضاف أن الجيش لن يظل صامتا أمام انزلاق البلاد في صراع تصعب السيطرة عليه، وهو ما يتحتم معه التدخل لمنع الدخول في نفق مظلم من الصراع والاقتتال الداخلي، بحسب تصريحات بطل القصة، وتابع تتمة المشهد بحديث عن مهلة جديدة قبل ساعة الصفر بثمان وأربعين ساعة بنفس الفكرة، واستنادا إلى نفس المعطيات التي حاول إقناع العالم بها.
وهنا يتم استدعاء المشهد الجزائري بكل دهاء، لكن على مهل لأن الرجل سيترك مجالا لأبطال آخرين (الإعلام) في القصة لتكملة المشهد لإقناع المشاهد به، وكذا المجاميع الفنية (المعارضة) في الفيلم.
فاستدعاء سيناريو الجزائر كان من خلال الدق على فكرة الاحتراب الداخلي أو الاقتتال الأهلي، في محاولة لتصوير القوى السياسية على أنها تملك من القوة والسلاح ما يمكنها من مواجهة البعض، كما حدث في الجزائر عام 1991 بما سمي فيما بعد بالعشرية السوداء، التي بدأت بتصاعد الغضب في قطاعات واسعة من الشارع الجزائري منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1988، مع سلسلة من إضرابات طلابية وعمالية تدرجت إلى العنف، وهو ما حدى بالحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ استعملت فيها القوة التي أدت إلى مقتل ما يزيد عن 500 شخص واعتقال حوالي 3500 آخرين. وسميت هذه الأحداث وقتها بأكتوبر الأسود، وكانت لها ردة فعل غير متوقعة، حيث قامت مجاميع تنتهج الإسلام السياسي بإحكام سيطرتها على بعض المناطق، تزامنا مع مطالبات من منظمات مدنية بإجراء تعديلات وإصلاحات، وهو ما رضخ له الشاذلي بن جديد، فأجرى إصلاحات دستورية فتحت الباب أمام التعددية الحزبية وإنشاء الأحزاب، وهو ما استفاد منه عباسي مدني وعلي بلحاج، فأسسا الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي أدت دورا كبيرا في الحياة السياسية الجزائرية، على الرغم من أن الحزب الحاكم في حينها (جبهة التحرير الوطني)، قد أجرى تعديلات على القوانين المنظمة للانتخابات لتصب في مصلحته، وهو ما دفع الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الدعوة إلى الإضراب العام، قابلها الشاذلي بن جديد بفرض الأحكام العرفية، ومن ثم القبض على عباسي مدني وعلي بلحاج.
ومع كل هذه الخطوات التي من شأنها إقصاء الإسلاميين، إلا أن نتائج انتخابات 1991 أصابت الحزب الحاكم في الجزائر، ومن ورائه الغرب، بصدمة بعد فوز الإسلاميين بـ188 مقعدا من أصل 232 مقعدا هي عدد مقاعد البرلمان الجزائري.
كان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ أمرا غير مقبول لدى كبار قيادات الجيش، فأجبروا الشاذلي بن جديد على إلغاء نتائج الانتخابات. وللحيلولة دون تطبيق نتائجها، تم تأسيس المجلس الأعلى للدولة برئاسة الجنرال خالد نزار، وتم إلغاء جبهة الإنقاذ كحزب مرخص واعتقال ما يقارب 30 ألف من أتباعه، وهو ما فتح الباب أمام الاحتراب الأهلي استهدف فيها الرموز المدنية للحكومة، واتسعت رقعة الصراع لتمتد إلى ولايات عدة في الجزائر وعمت الفوضى.
هذه الفكرة.. فكرة جزأرة المشهد المصري قبيل انقلاب 3 تموز/ يوليو كان التكأة التي استند عليها نظام الانقلاب، سواء العسكريون منهم أو ذراعه المدني المتمثل في دبلوماسيته التي تدين بالولاء بشكل كبير لنظام مبارك، لتخويف الغرب على مصالحه في مصر وعلى أمن الملاحة في قناة السويس، وتهديد أمن الكيان الصهيوني، وهو ما نجح فيه النظام بشكل كبير، وانعكس على محادثات كل من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي مع قيادات المعارضة، في أثناء اعتصام ميدان رابعة العدوية في الأيام الأولى بعد الانقلاب.
وهذا ما دحضه مرشد الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع على منصة الاعتصام بقولته الشهيرة "ثورتنا سلمية وستظل سلمية... سلميتنا أقوى من الرصاص"، وصدقه فعل المعارضة التي لم تنجر إلى العنف برغم محاولات النظام المستميتة لجرها إلى هذا المربع، بإعمال القتل في المعارضة في مجازر عدة، بداية من حادثة الحرس الجمهوري التي راح ضحيتها 61 شخصا، مرورا بأحداث المنصة التي راح ضحيتها أكثر من 200 قتيل وأكثر من 4500 مصاب، ثم مذبحة القرن في رابعة العدوية التي تضاربت أرقام الضحايا فيها، لكن على أقل تقدير تعدت الألفين من معارضي الانقلاب. ولم تنته تلك المجازر لسحب المعارضة للرد على الانتهاكات بالعنف فلا زالت التصفيات مستمرة للمعارضين، مع آلة إعلامية بجانب ماكينة الإشاعات التي تحرض على انتهاج العنف.
ومع ذلك، فإن إدخال مصر في دائرة العنف أصبح قاب قوسين أو أدنى، لكن هذه المرة من داخل المؤسسة الانقلابية نفسها. فكلمة رأس النظام في أثناء افتتاحه بعض المشروعات بمحافظة بورسعيد، في كانون الثاني/ يناير الماضي، تؤكد أن صراعا محتدما على السلطة بين أجنحة المؤسسة العسكرية، كسر بابه محاولة رئيس أركان الجيش المصري السابق، الفريق سامي عنان، الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما قابله النظام باعتقاله بتهم التحريض على شق صف الجيش وإحداث الفتنة. وأثارت الخطوة امتعاض قطاع كبير داخل المؤسسة العسكرية، فالغضب لا يتعلق بمسألة منعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية فقط، ولكن أيضا التعامل المهين مع قيادي كبير في الجيش، وإيداعه السجن الحربي، وهو ما استدعى حديث عدد من القيادات الوسطى مع القيادات العليا، بضرورة إبعاد المؤسسة العسكرية عن دائرة الصراع السياسي.
وهو ما يؤكد ما كشفت عنه صحيفة لوموند الفرنسية عن أن شحنات التوتر في صفوف المؤسسة العسكرية ضد رأس النظام غير مسبوقة، مشيرة إلى أن العسكريين ليسوا كتلة واحدة خلف رئيس النظام وقائد المؤسسة العسكرية الأعلى، لرؤيتهم أن رأس النظام اتخذ الانتخابات الرئاسية ذريعة للتخلص من كل قيادات المؤسسة العسكرية السابقة سواء في الجيش أو في المخابرات، التي تكن لها القيادات الوسطى والدنيا احتراما كبيرا.
وبعد محاولات رأس النظام ترتيب صفوف المؤسسة العسكرية بعمليات النقل والاستيداع والإحالة لوظائف مدنية، أو حتى بعد ظاهرة الحوادث المرورية التي يروح ضحيتها قادة بارزون في المؤسسة العسكرية، والتي يفسرها البعض على أنها شكل من أشكال إنهاء الخدمة، مع حديث رأس النظام عن طلب تفويض لا يمكن فهمه، إلا أنه يريد منحه رخصة جديدة لتصفية معارضين، لكنهم هذه المرة من داخل المؤسسة، لا سيما أن تسريبات لا ترقى لحد المعلومة - وإن كان لها شواهد - تتحدث عن تصفيات جسدية مباشرة لبعض القيادات الوسطى في الجيش منذ أيام، بعد شائعات عن تحرك لكتائب للجيش في الإسماعيلية والمنطقة الشمالية، مع أنباء عن اعتقال 23 قيادة من قيادات المنطقة الشمالية، ما يجعل المشهد المصري يتحول من الجزأرة التي كان يريدها النظام إلى السودنة. وأعني هنا فترة الانقلابات العسكرية التي شهدها السودان في أواخر الستينيات وحقبة السبعينيات وما بعدها.
فحالة البلبلة السياسية وما تبعها من استقطاب حاد؛ مهد الأرض في السودان لانقلاب أيار/ مايو عام 1969، الذي قاده آنذاك العميد جعفر النميري. وعلى الرغم من صمود انقلاب 69 مدة 16 عاما لما كان يتخذه النميري من احتياطات وحذر مستفيدا من التجارب السابقة، إلا أن عهده شهد محاولات انقلاب كثيرة، وإن فشلت جميعها، إلا أنها حولت العاصمة السودانية إلى برك دم، وأشهرها ما نفذه رفقاء دربه في انقلاب أيار/ مايو بما عرف بانقلاب تموز/ يوليو في عام 1971، ولم تمض إلا سنوات قليلة لتقع محاولة جديدة في عام 1975 قادها الضابط حسن حسين، وإن كانت قد فشلت المحاولة وتم إعدام قائدها، إلا أن هذا لم يثن القوى السياسية المعارضة عن إعادة المحاولة بعد أن أوكلت أمر الانقلاب للعميد محمد نور سعد، متعهدة بدعم شعبي واسع، إلا أن النميري أجهض المحاولة، وحول شوارع الخرطوم لمدة يومين إلى ساحة معارك مع الانقلابيين أسفرت عن مقتل المئات، وانتهت بإعدام سعد.
إلا أن التاريخ أعاد الزمن إلى سابق عهده، وأخذ الشعب زمام أمره وأطاح بالنميري في ثورة شعبية عرفت بانتفاضة أبريل عام 1985، إلا أن تناحر الأحزاب، مهد الأرض من جديد لانقلاب عسكري على الديمقراطية قاده الرئيس عمر البشير في حزيران/ يونيو 1989. وعلى الرغم من أن انقلاب البشير كان مؤيدا من قبل قطاع كبير من الشعب وعلى رأسهم الإسلاميون، إلا أنه لم يسلم من محاولات الانقلاب. ففي عام 1990، وفي ما يعرف بانقلاب رمضان قاده اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، كانت محاولة للانقلاب على البشير انتهت بإعدامهما مع 28 ضابطا قاموا بالمحاولة. وبعد أشهر من تلك المحاولة، قاد العقيد أحمد خالد محاولة باءت بالفشل، ومع مرور الوقت تتحدث الحكومة من وقت لآخر عن محاولات فاشلة للانقلاب، لكنها من غير براهين كافية.
والشاهد هنا أن حالة التوتر التي تشهدها الأوساط المصرية تعد بمنزلة أرض خصبة لاندلاع الانقلابات، لاسيما أن الحالة المزاجية في صفوف المؤسسة العسكرية تعد حافزا قويا على ذلك، لما يراه قطاع كبير من قادة المؤسسة العسكرية إهانة لمن يرونه رمزا، وما يمثله ذلك من إمكانية استهدافهم، بعد أن وصلت رسالة النظام بأن لا عزيز لديه.
كما أن كشف صحيفة نيويورك تايمز عن قيام طائرات الكيان الصهيوني بشن غارات جوية داخل سيناء بالتنسيق مع قيادة المؤسسة العسكرية، يضع قيادات المؤسسة الوسطى والدنيا في حرج كبير، وهي التي طالما أضفت على نفسها هالة من الوطنية مستندة على تاريخها المشرف والتحامها مع الشعب وتسويقها لنفسها على أنها منفذة لإرادته.
وهو ما يجعل من الانقلاب على النظام مبررا للتخلص من ذلك العار، ويخدم في نفس الوقت هدف الاستيلاء على السلطة.
فهل يمكن أن يؤدي الاحتقان الناتج عن قرارات النظام المتهورة والمندفعة إلى سودنة المشهد المصري؟.. هذا ما نخشاه.