قضايا وآراء

الإعلام والفضاء العام الإعلامي

1300x600

إن إحدى ميزات "ديمقراطية الجماهير"؛ التي ترتبت عن تراجع النظم الكليانية وتقوي السلط المضادة بكل أنواعها وأشكالها، هي المكانة المتميزة التي تعود لوسائل الإعلام والاتصال في صلبها، لا بل إن وجود هذه الأخيرة هو من الشروط الأساس لتشكيل مفاصل الممارسة السياسية وتأسيس المشهد الديمقراطي بوجه عام.

يعبّر دومينيك فولتون عن هذه العلاقة من خلال توظيفه لمفهوم "الفضاء العام الإعلامي"، باعتباره مكمن تقدم العلاقات الرمزية بالمقارنة مع العلاقات المادية المباشرة. إنه يحيل، في نظره، على "مجتمع مفتوح، مدني، تتميز العلاقات الاجتماعية بداخله بالقيمة المركزية للفرد، سواء على مستوى العمل أو على مستوى نمط الاستهلاك".

التناقض الجوهري الذي يبرز هنا، لا سيما في ظل الأنماط السياسية التي تراهن على الفرد، يكمن في الأولوية المعطاة للأدوات التي تسهل مبادئ التعبير، وتخليص الفرد وتقييم الهوية، من ناحية، ثم - من ناحية أخرى - مجتمعا يراهن اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، على العدد، مواطنين، مستهلكين أو مشاركين في النقاش العمومي.

 

عندما يكون هذا الفضاء العام واسع الجنبات والأفق، مكتنزا لمختلف أنواع وأشكال المعلومات والآراء، دون تعتيم أو تدليس، فإنه يؤسس بذلك لبنية تحتية تدفع بجهة توسيع المجال السياسي


لذلك، نجد أن فولتون يلح على ضرورة توافر فضاء عام موسع، لكي لا تتحول هذه التناقضات البنيوية إلى احتقان، ثم إلى احتراب، ثم إلى تدافع يكون العنف خيطه الناظم. بالتالي، فإن هذا الفضاء العام المموسط إعلاميا، يمنح الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية؛ دورا بارزا باعتبارها أداة إخبار وتواصل، ومن ثمة رافعة لتأسيس أبعاد النقاش الذي يدور من بين ظهرانيه بين مختلف الفاعلين.

عندما يكون هذا الفضاء العام واسع الجنبات والأفق، مكتنزا لمختلف أنواع وأشكال المعلومات والآراء، دون تعتيم أو تدليس، فإنه يؤسس بذلك لبنية تحتية تدفع بجهة توسيع المجال السياسي ذاته، لا على مستوى أعداد الفرقاء المتواجدين به، بل أيضا على مستوى تيارات الأفكار والرموز والتمثلات التي تطرح ويتم التداول بشأنها.

وعلى هذا الأساس، فإن هذا الفضاء العام المموسط إعلاميا، إنما يحمل ميزات ومميزات "المجتمع الفرداني"، حيث الحرية والتعددية الإعلامية من جهة، ثم القيمة الموكولة للفرد من ناحية ثانية، باعتباره محور العملية السياسية، لا بل قل أداتها ومصبها في المحصلة النهائية.

بيد أننا نلحظ أن هذا الفضاء العام المموسط إعلاميا؛ غالبا ما تخترقه بعض المفارقات عندما يستقرئ على ضوء الممارسة السياسية الجارية:

 

الفضاء العام المموسط إعلاميا، إنما يحمل ميزات ومميزات "المجتمع الفرداني"، حيث الحرية والتعددية الإعلامية من جهة، ثم القيمة الموكولة للفرد من ناحية ثانية


- أول مفارقة جوهرية تتمثل في سطوة الخبر واختزال الزمن في كل ما هو آني ومباشر وعابر. لقد قلنا، بهذا الخصوص، إن هذا المعطى الجديد هو نتاج مزدوج للطفرة التكنولوجية ولاتساع المجال السياسي، بعد تراجع المنظومة الكليانية و"انتصار" المرجعية الليبيرالية في الاقتصاد والسياسة.

بيد أن المفارقة هنا، لا سيما في حال تحرر "السوق الإعلامي"، إنما تكمن في أن السياسة مطالبة، كي لا نقول مجبرة، على مجاراة منطق السرعة والآنية، وفي أن الفاعلين السياسيين مطالبون، هم بدورهم، بالتكيف مع غزارة في المعلومات لا تتماشى دائما وما يحتاجه الفضاء العام لضمان التدافع الديمقراطي السليم.

ولذلك، فإن التحرير الذي يطال مجال الإعلام هنا، على محك المعطيات المتحدث فيها سابقا، قد لا يفرز بالضرورة اتساعا في المجال العام، حيث تتم الممارسة السياسية؛ لأن هذه الأخيرة تراهن على الزمن الطويل ولا تتماهى دائما مع سطوة المعلومة وغزارتها. يبدو الأمر هنا كما لو أن وفرة المعلومة تقتل البعد التداولي بين الفاعلين، بحكم عدم قدرتهم على مجاراتها، ثم استهلاكها وهضمها.

 

التحرير الذي يطال مجال الإعلام هنا، على محك المعطيات المتحدث فيها سابقا، قد لا يفرز بالضرورة اتساعا في المجال العام، حيث تتم الممارسة السياسية


- ثاني مفارقة للفضاء العام المموسط إعلاميا مع الممارسة السياسية؛ تحيل على التمثل الذي تمرر له وسائل الإعلام والاتصال في فضاء عام ما، ويلتقطه الفاعلون السياسيون ويحولونه إلى أداة من أدوات فعلهم اليومي.

القصد، بخصوص هذه المفارقة، هو القول بأن توافر أحجام ضخمة من المعلومات، متأتيا من مجال إعلامي محرر، لا يعني أنه سيكون من شأنها تزويد الفاعلين السياسيين بالمعرفة الضرورية لفهم الواقع. المعرفة تستوجب بدورها مدى زمنيا بعيدا، حتى يكون بإمكان المعلومات أن تختمر في ظل صيرورتها وتتحول إلى معارف قارة، ويكون بالإمكان البناء عليها لتأسيس فضاء النقاش والتداول.

 

العبرة هنا ليست بأحجام المعلومات. العبرة بنوعيتها والغاية من طرحها للنقاش والتداول.


- ثالث مفارقة ومفادها حقيقة أنه بقدر سعة اطلاع النخب السياسية (والثقافية والاقتصادية) بفضل وفرة المعلومات؛ بقدر بعدها عن ملامسة الواقع مباشرة. يبدو الأمر هنا كما لو أن ضخامة حجم المعلومات وارتكان النخب للبناء عليها، يخفي على هذه الأخيرة مجريات ما يقع بأرض الواقع. بالتالي، فإن كل أشكال النقاش والتداول تبقى حصرا وحكرا على هذه النخب، ولا تتعداها إلا نسبيا لتطال كل مفاصل الفضاء العام.

ولذلك، فإن ما تروجه طفرة الإعلام والمعلومات، لا يتساوق دائما وإكراهات الفضاء العام. إن هذا الأخير مطالب بتنقيتها وتصفيتها والنظر في تلك التي تخدم النقاش في الفضاء العام. العبرة هنا ليست بأحجام المعلومات. العبرة بنوعيتها والغاية من طرحها للنقاش والتداول.