يثير الموقف الأمريكي من عملية غصن الزيتون العديد من التساؤلات لدى شريحة واسعة من المراقبين ممن اعتبروا انّه أقل من السقف الذي كان من المفترض أن يكون عليه، فالمسؤولين الأمريكيين لم يعترضوا على العملية العسكرية التركية بالشكل الذي كان متوقعاً.
غالبية التصريحات الرسمية الأمريكيّة التي صدرت خلال اليومين الأوّلين من العمليّة تضمّنت تفهّماً لمخاوف تركيا الأمنيّة.
المتحدثة باسم البيت الأبيض قالت "نعرف مخاوف تركيا الأمنية المشروعة ونأخذها بشكل جدّي بعين الإعتبار. سنواصل العمل مع تركيا كحليف في الناتو"، وكذلك فعلت المتحدثة باسم الخارجية الامريكية التي قالت نفس الكلام تقريباً، مضيفةً انّ دور تركيا حاسم في هزيمة تنظيم داعش.
هذه اللهجة التصالحيّة، والحذرة الى حدّ ما، تهدف إلى إحتواء الجانب التركي، ولعل هذا هو السبب الأساسي في عدم الاعتراض على عملية "غصن الزيتون"، بالإضافة طبعا إلى وجود مبرّرات موضوعيّة تجعل من الصعب على الولايات المتّحدة الوقوف في وجه العمليّة لعل اهمّها:
أولا: الولايات المتّحدة تعلم أنّ المناطق المحتلة من قبل الميليشيات الكردية "بي واي دي" في شمال سوريا تشكل تهديداً أمنيا مباشراً على تركيا بشهادة المسؤولين الأمريكيين أنفسهم الذين اعترفوا بشرعية المخاوف الأمنية لأنقرة لاسيما تلك النابعة عن تهديدات من قبل حزب العمّال الكردستاني.
ثانيا:ً الميليشيات الكردية الموجودة في عفرين ليست جزءاً من التحالف ضد "داعش" على حد قول المسؤولين الأمريكيين في البنتاغون، وبالتالي لا يوجد لدى واشنطن حافز كافي للدفاع عنها، على اعتبار أنّ ذريعة الإدارة الأمريكية الأساسية في الوقوف إلى جانب الميليشيات الكردية هي أنّ هذه الميليشيات تقاتل "داعش".
ثالثا: في نهاية المطاف الولايات المتّحدة لا تمتلك ما توقف به العملية العسكرية في عفرين خاصّة أنّ المنطقة كانت تحت نفوذ روسي مؤخراً مع انتشار الشرطة العسكرية الروسية في المدينة، وبالتالي فليس لديها مصلحة في أن تضع نفسها في موقف من هذا القبيل، فضلاً عن أن الهجوم العسكري التركي لا يشكّل خطراً على المصالح الأمريكية أو على أرواح الجنود الأمريكيين المنتشرين في أماكن أخرى في سوريا.
لأجل هذه الأسباب، فإن الحسابات الأمريكية كانت تفترض ربما أنّ عدم الاعتراض على عملية "غضن الزيتون" سيكون بمثابة تفهّم لتركيا، وتعويضاً لها عن التهرب من الالتزامات التي قُطِعت أمامها سابقا، قد يرضي ذلك الجانب التركي ويخفف من أسباب التوتر بين البلدين.
لكن سرعان ما لوحظ وجود تغيّر في لهجة الجانب الأمريكي مع دخول البنتاغون على الخط، وهو الجهة الأساسية التي يعتقد أنّها مسؤولة عن السياسة الأمريكية في سوريا.
في البداية، قال المتحدث باسم البنتاغون "نحن لا نتغاضى عن استخدام الأسلحة والمعدات المقدمة من التحالف لـ(قوات سوريا الديمقراطية) لأي غرض سوى هزيمة "داعش". إذا قام أي فرد أو مجموعة بانتهاك الاتفاق معنا، سوف نقوم بالتحقيق، وإذا لزم الأمر، سنقطع الدعم المقدّم لهم"، مؤكدا على أنّ الولايات المتّحدة ملتزمة بحماية تركيا كشريك في الناتو، بما في ذلك دعم جهود مواجهة التهديدات من حزب العمّال الكردستاني.
ومع تكثيف الجانب التركي لحملته الإعلامية والسياسية لكي تواكب عملية "غصن الزيتون"، بدا أنّ البنتاغون يستشعر رغبة تركيّة في توسيع نطاق العمليات العسكرية، أو على الأقل هذا ما كانت تشير إليه تصريحات بعض المسؤولين الأتراك.
خطاب مسؤولي البنتاغون كان جاء ليحث تركيا على ضبط النفس وضمان أن تبقى العملية العسكرية التركية محدودة النطاق لتجنب الإصابات بين المدنيين، مع دعوة أنقرة إلى التركيز على الهدف المشترك المتمثل في الهزيمة "داعش" في سوريا.
لقد بدا أنّ هذا السياق أصبح بديلاً لتصريحات المسؤولين الأمريكيين السابقة، لاسيما مع اتصال الرئيس الأمريكي ترمب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو الاتصال الذي اختلف الطرفان على حقيقة ما جاء في فحواه.
وفقاً للبيان الصادر عن البيت الأبيض، فإن ترمب حثّ في الاتصال نظيره التركي على "توخي الحذر وتفادي أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى وقوع نزاع بين القوات الأمريكية والقوات التركية"، لافتا إلى ضرورة أن تقوم تركيا بـ "تخفيض النزاع، والحد من الأعمال العسكرية".
الرئيس الأمريكي كان يشير هنا على ما يبدو إلى نيّة تركيا في توسيع نطاق عملياتها العسكرية إلى أبعد من عفرين، حيث أكّد الجانب التركي مؤخراً أنّ قواته المسلّحة مستعدة لتطهير مدينة منبج. إذا لم يكن هذا الأمر بمثابة مناورة من قبل الجانب التركي، فإن توسيع العمليات ليشمل منبج لاحقاً سيؤدي على الأرجح إلى صدام حاد مع الجانب الأمريكي ولعل هذا ما يفسّر تغيّر لهجة المسؤولين الأمريكيين.
منبح مدينة تقع غرب نهر الفرات ويتواجد فيها اليوم ميليشيات "بي واي دي" الكردية ضمن قوات "قسد"، وينتشر فيها أيضاً قوات أمريكية. الإدارة الأمريكية السابقة كانت قد وعدت الحكومة التركية بسحب الميليشيات الكردية من المدينة إلى شرق الفرات بعد أن إحتلتها الميليشيات الكردية في إطار الحملة الأمريكية ضد داعش.
من هذا المنطلق، ترى الحكومة التركية أنّ منبج استحقاق أمريكي مؤجّل، ويجب على الولايات المتّحدة الوفاء به، وإلا فإنّ القوات التركية ستقوم بتطهير المدينة بنفسها.
هناك زخم إعلامي وسياسي وميداني كبير حاليا لدى الجانب التركي بعد إطلاق عملية "غصن الزيتون" تعبّر عن حالة "طفح الكيل"، وربما يغري هذا الوضع الجانب التركي بتوسيع نطاق العملية فعلاً خاصّة إذا لم يكن هناك أي مشاكل مع الجانب الروسي لاحقا، لكنّ مثل هذه الخطوة ستعني بالضرورة الصدام مع الجانب الأمريكي الذي يرى المسؤولون الأتراك أنّه لم يعد بإمكانها الاستمرار في اللعب على الحبلين (التركي والكردي) وأنّ عليها إتخاذ قرار حاسم بهذا الشأن.