تمتع عبد الناصر بثقة طاغية بالنفس، شارفت على الغرور. لم يكن عبد الناصر يعتقد أنه أهل لرئاسة الجمهورية المصرية، وحسب، بل أن قدره أن يقود العالم العربي برمته. أحاط بعبد الناصر عدد كبير من المساعدين والزملاء، ولكن مهمة هؤلاء كانت في جلها تزويده بالمعلومات أو وجهة النظر الأخرى؛ أما القرار فكان قراره وحده. ولم يكن السادات أقل ثقة بالنفس من سابقه؛ بل وكان أكثر دهاء ومعرفة بالمصريين وبنية البلاد. اضطر السادات، صاحب التاريخ السياسي الطويل قبل انقلاب يوليو/ تموز، إلى الانزواء والتواضع خلال رئاسة عبد الناصر وهيمنته الكاريزماتية الهائلة. ولذا، فما أن أصبح رئيساً، ونجح في التخلص من منافسيه، حتى برزت نزعته الفرعونية، المكبوتة طويلاً، بصورة مبالغاً فيها. اعتقد السادات أن رئاسة الجمهورية صنعت خصيصاً له، وتصرف وكأنه أحد آلهة الحكم عند المصريين. مبارك كان مختلفاً قليلاً؛ فقد أدرك من البداية أن المؤهلات التي أوصلته لمقعد الرئاسة لم تكن كافية، وأن عليه العمل بجدية وتوازن لتأسيس شرعية رئاسته. وقد بدأ مبارك ولايته بالتقرب إلى الشعب وإلى معارضي النظام، وبذل جهداً كبيراً لإخراج البلاد من عزلتها الإقليمية ومن أزماتها الاقتصادية المتلاحقة. وليس حتى مرت السنوات واعتاد مقعد الرئاسة أن أصبح أكثر فساداً وميلاً للتحكم، وأخذت أوهام التوريث في السيطرة عليه.
يفتقد السيسي أياً من الخصال التي صنعت رئاسات سابقيه. تكشف لغة الرجل وتصرفاته عن مقدرات بالغة التواضع لضابط جيش، صعد في زمن انحطاط العسكرية المصرية، بدون أن تكون لديه أية مواريث أو مؤهلات سياسية تذكر. ليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن السيسي يتمتع بأي قدر من الثقة بالنفس؛ بل على العكس، تشير الطريقة التي يتعامل بها مع مرؤوسيه وزملائه ومنافسيه المحتملين، على السواء، إلى معاناة دائمة من مشاعر النقص، وإدراك يقيني بأن رئاسته بنيت على الاغتصاب والخداع والتآمر، وليس على الحق أو الإنجاز. ما جاء بالرجل إلى قيادة الجيش، الموقع الذي أهله للانقلاب على رئيسه المنتخب، أن د. مرسي، في لحظة بالغة الاضطراب من تاريخ البلاد، رأى فيه الضابط الشاب، مقارنة بالطاعنين في السن من حوله، القادر على إعادة بناء الجيش. خطأ مرسي ليس في عدم توقعه الانقلاب، لأن رئيساً من خارج جسم الدولة المصرية ما كان له مقاومة انقلابها عليه؛ خطأ مرسي أنه لم ير أصلاً أن السيسي من التفاهة بحيث لا يصلح، لا لقيادة الجيش، ولا لقيادة أي شيء آخر.
وهذا ما يجعل المعركة المحتدمة على رئاسة الجمهورية المصرية بالغة الخصوصية.
واجه عبد الناصر المعارضة الشعبية في بداية حكمه بقدر لا يخلو من التآمر والتعسف؛ وحتى عندما وقع الصدام مع الإخوان، الذين مثلوا التحدي الأكبر لسلطته، كان الدم الذي سفكه محدوداً، وغطي بمسحة شرعية قانونية. وحتى 1967، نجح النظام الناصري، بقدر من الشعبوية والتحكم والخطاب التحرري، المناهض للسيطرة الاستعمارية، في تجنب انفجار أي تحد شعبي معارض. عندما اندلعت الحركة الشعبية في أعقاب هزيمة 1967، لم يواجه الرئيس الأسطوري الشعب بالموت وسفك الدماء، بل بالتراجع المحسوب، وإعلان بيان مارس/ آذار 1968. ولم يكن سلوك السادات مع معارضيه مختلفاً كثيراً. الحقيقة، أن السادات أوقف ممارسات التعذيب، المعتمدة في أجهزة الأمن المصرية منذ العهد الملكي، وأطلق مناخاً من التعددية السياسية والحريات؛ وعندما فاجأته انتفاضة الخبز الشعبية في 1977، تردد في إنزال الجيش للشارع، وسارع إلى إعادة النظر في سياساته الاقتصادية ثقيلة الوطأة.
بيد أن السيسي، ومنذ الأيام الأولى للانقلاب، أسفر عن نهج مختلف تماماً. لم يتردد الضابط الانقلابي في سفك دماء المصريين، والآلاف منهم، في أحداث نادي الحرس الجمهوري، والمنصة، وفي رابعة. مسكوناً بالدونية والخوف، أطلق السيسي العنان لأجهزته الأمنية لمطاردة واعتقال وتعذيب عشرات الآلاف من المعارضين، وشرع سياسة الاغتيال والقتل بلا محاكمة. ولم يكتف بالاجهزة الأمنية المعتادة، بل أضاف إليها المؤسسة العسكرية، بكافة أجهزتها، التي تحولت منذ 2013 إلى أداة قمع هائلة للمصريين، في سيناء، في منطقة القناة، وبعض مدن الوادي. لم تعرف مصر في تاريخها نظاماً قمعياً كما هذا النظام، ولم تشهد مصر في تاريخها سفكاً سياسياً للدماء كما يسفك هذا النظام. منذ أثقلت البلاد برائحة الدم، بعد أيام قليلة فقط من انقلابه، لم يعد لدى السيسي من قدرة، أو ربما رغبة، في إيقاف شلال الدم.
كل الزعماء الذين يعانون من أزمة الشرعية يجدون من الصعوبة التعايش مع المعارضين والمنافسين. ولكن خوف السيسي من الآخرين مرضي، وحشي، وجنوني. قبل فترة قصيرة فقط، وبعد أن كان تخلص من كافة زملائه الذين شاركوه الانقلاب في المجلس العسكري، أطاح السياسي بصهره من رئاسة الأركان بطريقة مهينة، فقط لأن شكاً انتابه بأن الصهر تصرف في زيارته للولايات المتحدة بقدر من الاستقلال والندية. ولم يكن مفترضاً أن يمثل الفريق شفيق خطراً على الرئيس الانقلابي. أحكم السيسي قبضته على مقاليد الحكم طوال أربع سنوات، وسواء بالقوة أو الإغراءات أو التواطؤ على الجريمة، خضعت لإرادته كافة مؤسسات الحكم.
واحدة فقط من هذه المؤسسات تكفي للخروج بالنتيجة الانتخابية التي يريدها الرئيس. فلماذا يشكل عسكري عجوز، لا يتمتع بدعم حزبي ملموس أو قاعدة شعبية، أسير لذات العلاقات العربية، وعاش بعيداً عن البلاد منذ سنوات، مثل شفيق، مصدر خطر؟ ولكن السيسي أضعف من تخيل أي مستوى من المواجهة الانتخابية. وهذا ما دفعه لاستخدام كافة الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، لإخراج شفيق من حلبة المنافسة، بما في ذلك تهديده بمصير بناته.
اليوم، وبعد التخلص من شفيق، وجد دعاة السيطرة العسكرية العقلانية في رئيس الأركان الأسبق، سامي حافظ عنان، مرشحاً مناسباً لخوض معركة الانتخابات والتخلص من النظام الوحشي، الذي يقف السيسي على رأسه. سامي عنان، بالطبع، في وضع أفضل من شفيق؛ فكون سيرته الوظيفية عسكرية بحتة، يصعب تهديده بتهم الفساد بدون أن تطال التهم الجيش نفسه. وما إن يعلن عنان ترشحه رسمياً حتى سيجد بين صفوف النخبة المصرية العشرات، وربما المئات، ممن أيدوا انقلاب 2013، الذين سيعلنون تأييدهم له، بعد أن أصبحت وطأة نظام السيسي غير قابلة للتعايش أو الاحتمال. ولكن أحداً لا يجب أن يتصور أن طريق عنان إلى الانتخابات الرئاسية ستكون أسلس من طريق شفيق.
المؤكد أن السيسي، وبغض النظر عن حجم التحدي الذي يمثله عنان، سيبذل كل جهد ممكن لإخراجه من الميدان الانتخابي. وسيحتاج عنان ما هو أكبر من سجله الوظيفي لمنع السيسي من دفعه إلى المصير الذي انتهى إليه شفيق، شيئاً مثل الانقسام الفعلي والكبير في جسم الدولة المصرية.
هذا لا يعني توهم فضائل ديمقراطية لدى شفيق وعنان. مثل السيسي، يؤمن كلاهما أن الجمهورية هي صنيعة الجيش، وأن حق الجيش في الحكم لا ينازع. ولكن محاولتهما خوض التحدي الانتخابي مؤشر واضح إلى حجم القلق المتزايد، في دوائر ما من الطبقة الحاكمة، من العبء الثقيل الذي بات السيسي يمثله، للبلاد وللمؤسسة العسكرية، على السواء. وليس ثمة شك في أن السيسي، إن نجح في العودة إلى الرئاسة، لن يتورع عن تعديل الدستور، ليفسح المجال لرئاسة مدى الحياة؛ وأن إطاحته، عندما تحين لحظتها، ستكون باهظة التكاليف.