قضايا وآراء

اللغة العربية كوسيلة مقاومة

1300x600
لا يعرف الإنسان القيمة الحقيقية لأي شيء إلا حين يُسلب منه. وهكذا كان الحال مع شعوب المغرب العربي، مثل الجزائر والمغرب، بعد أن سلبهم المستعمر لغتهم الأم وفرض عليهم لغة أخرى. أدركت حركات المقاومة وقتها كيف أن اللغة هي جزء أساسي من الهوية، وأنها وسيلة مقاومة للغزاة. وخاضت حركات المقاومة في دول المغرب العربي معارك التعريب التي استمرت حتى بعد الاستقلال؛ على يد رموز مثل الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين وغيره. وكان لجمعية علماء المسلمين في الجزائر دور هام في هذا الصدد ومؤسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قال قولته المشهورة: "إن الجزائر لن تكون فرنسية حتى لو أرادت".

بعد ذلك، دخلت الشعوب العربية مرحلة جديدة في نصف القرن الأخير بعد الانسحاب العسكري لقوى الاستعمار من الدول العربية المحتلة. واتخذت المقاومة أشكالا جديدة، كان على رأسها المقاومة الفلسطينية.. تلك المقاومة التي يمكن أن نقول إنها لم تخسر أبدا حتى الآن في معركة اللغة والهوية الثقافية. فمن ناحية، لم تستطع إسرائيل أن تجرد عرب الخط الأخضر من لغتهم الأم، وهذا يعني أن اللغة العربية هي لغة 20 في المئة ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية بعد سبعة عقود من الاحتلال والتهويد. ومن ناحية أخرى، بقيت أرجاء فلسطين الأخرى متمسكة بلغتها العربية، الأمر الذي يجعل أهلها مرتبطين بجذورها ومنسجمين مع ثقافتهم وهويتهم وتاريخهم.

في مثل هذه التجارب التاريخية، قد يكون الغزو العسكري والتحدي الواضح للغة والهوية هو الدافع الرئيسي لبذل مجهود للحفاظ عليها، لكن الأخطر هو أن تنشأ تحديات اللغة والهوية من داخل منظومة المجتمعات العربية نفسها، كما هو حادث الآن. فالواقع الثقافي والتعليمي لمعظم الدول العربية يشير إلى تمدد واضح للغات الأجنبية منذ سنين التعليم الأولى، وأن هناك تراجعا في الاهتمام باللغة العربية بشكل عام. وأسباب ذلك مختلفة، وتتنوع بين المشاكل الداخلية لكل دولة، والثورات المضادة التي تجرف الثقافة الأصيلة في إطار معاركها مع القوى الثورية والتيارات الإسلامية.

أخبرني الوزير التونسي السابق للشؤون الدينية، الدكتور محمد خليل، أنه صمم العام الماضي مشروعا لاستغلال فصول الدراسة في المدارس التونسية لتعليم التلاميذ القرآن الكريم بالتعاون مع وزارة التربية وعدد من المشايخ. والهدف هو التأهيل الديني واللغوي والثقافي للأطفال، وإعدادهم إعدادا روحيا وتربويا رفيعا منذ نعومة أظفارهم، الأمر الذي يحميهم من الانزلاق لأتون العنف والتطرف مستقبلا. لكنه فوجئ بهجوم ضارٍ من قبل بعض المثقفين ووسائل الإعلام الذين يربطون التعليم الديني والقرآن بداعش والإرهاب. ورغم أن التعليم الديني غير منتشر في تونس، ومع ذلك تتصدر البلاد قائمة الدول التي تصدر مقاتلين لداعش.

هذا مجرد مثال بسيط على العوائق التي تواجه وزيرا عربيا في دولة عربية يريد الحفاظ على لغة أبناء بلده وثقافتهم؛ عبر تعليمهم كتابهم المقدس.

إن اللغة العربية قادرة على أن تكون وسيلة مقاومة فعالة لمواجهة التحديات المتغيرة التي تواجه الشعوب العربية حاليا، مثل مشاكل العنف المنفلت أو ما يسمى بالإرهاب، بالإضافة لمشاكل الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي؛ لأن اللغة بشكل عام حاملة لثقافة ووسيلة تواصل عاطفي ووجداني، وتعبير عن هوية وحضارة. وهي أمور تنتقل تلقائيا مع إتقان اللغة وفهمها، فضلا عن الثقة بالنفس وبالذات الحضارية التي يتمتع بها من يتقن لغته الأم.

لا نبالغ إذا قلنا إن إتقان اللغة العربية يفتح المجال واسعا لإتقان لغات أجنبية أخرى؛ لأن اللغة الأم تصبح كمسطرة أو مقياس يقيس به الشخص الضمائر والأفعال لبقية اللغات بعد هضم لغته الأصلية هضما جيدا.

ولا يتسع المقام هنا لسرد الفوائد الاقتصادية والاجتماعية لإتقان العربية؛ في الوقت الذي تُقبل فيه العديد من الدول الإسلامية وحتى الغربية، مثل بريطانيا، على تعليم العربية في مدارسها وفي مراكز تعليم الكبار أيضا، وهو ما يمثل سوقا كبيرة لمدرسي اللغة العربية وفرصة للتواصل الحضاري والتفاهم بين الشعوب المختلفة.