كتاب عربي 21

دول مارقة

1300x600

لم يكن كافيا للولايات المتحدة الأمريكية تهديد مندوبتها الدائمة بالأمم المتحدة، نيكي هايلي، للدول الممثلة بالجمعية العامة للهيئة الدولية في حال تصويتها ضد قرار ترمب نقل سفارة بلاده للقدس، اعترافا منه بكونها عاصمة للدولة "اليهودية"، فما كان من الرئيس نفسه غير تكرار الوعيد الأمريكي بقطع المعونات عن أية دولة داعمة لمشروع القرار الذي تقدمت به اليمن وتركيا لإدانة الفعل الأمريكي تكريسا لـ"الرفض" العالمي له.

 

يأتي هذا بعد أن اعتبرت نيكي هايلي تصويت دول حليفة لبلادها بمجلس الأمن لفائدة قرار في نفس الاتجاه "إهانة لن تنساها".

لا غرابة في الموقف الأمريكي الذي لم يختلف في شيء عن سياسات البيت الأبيض إلا في خروجه للعلن بهذا الشكل الفج المطابق لشخصية السيد الجديد.

 

السيد، في البدء والانتهاء، فوق القانون وإن كانت أفعاله مروقا واضحا، وهو الذي لا يكف عن تصنيف الدول المعادية له دولا مارقة تحتاج إلى التأديب للعودة إلى بيت الطاعة الأمريكي.

 

وإن كانت أمريكا قادرة على تفادي أية تداعيات سلبية لسياساتها الرعناء، فالغباء استحكم بعدد من حلفائها العرب لتمثل الرعونة الأمريكية على دول الجوار دون توفر أية ضمانات لعدم تقديمها دولا مارقة أمام المجتمع الدولي يوما ما.

أمام نفس الجمعية العامة، كان وقف وزير خارجية البحرين مؤديا دور "صوت سيده" الإقليمي ليعلن أنه "لم يعد مقبولا أن يكون بيننا دول مارقة تقوم باحتلال الأراضي، وتتعدى على سيادة الدول، وتهدد الأمن والسلم الدوليين... فإما أن تلتزم بما تعهدت به... أو أن تحاسب بشكل واضح ورادع، وتفرض عليها العزلة والقوانين والقرارات الدولية الصارمة".

 

كان الوزير البحريني يعني بكلامه دولة قطر، لكنه لم يكن يدري أنه يدين حلفاءه في الرباعية بما يقوله ومعهم حليفته الجديدة – القديمة إسرائيل، المحتلة للأرض والمعتدية على السيادة ولو سعت جمعية "هذه هي البحرين" لتلميع صورتها أو تراقص حخاماتها على أنغام ما تعتبره "نشيدها الوطني" بقلب المنامة.

الدول المارقة العربية الجديدة حليفة لأمريكا ومروقها يشمل الداخل كما الخارج القريب.

في الداخل، تقمع كل صوت معارض أو مخالف للرأي الرسمي وتزج به في السجون. لا فرق عندها بين مواطن أومقيم، عالم دين أو إعلامي، مستثمر أو اقتصادي، كاتب أو شاعر، ثائر أو خانع، أمير أو مواطن عادي.

 

الكل سواسية أمام الرعونة والغطرسة والبطش و"القوة الغاشمة". القانون فيها مغيب أو يفصل حسب مقاس السلطة ورغباتها، والمحاسبة والاختيار الحر للحاكم مجرد أضغاث أحلام.

 

في داخل الدول المارقة الجديدة يؤله الحاكم ومن والاه، وتبسط الأجهزة الأمنية والعسكرية أيديها على الثروات وعلى أعناق "الرعايا" المحرومين من كل حقوق المواطنة المكفولة عرفا وقانونا. كما تهدد استثمارات الدول المخالفة بالتحفظ عليها في عمليات تصنف سطوا واضحا إن تحولت من التهديد للفعل.

أما في الخارج، فقد أخذتها العزة بالإثم لتنطلق، خارج القانون الدولي، في قصف المدنيين في دولة جارة بدعوى الدفاع عن شرعية يكاد "ممثلها" أن يصنف في خانة الخاضع للإقامة الجبرية بها، وهو المرفوض من الوجه الثاني من عملة "العدوان" الساعي لتثبيت الانفصال بديلا يتوافق وطموحاته التوسعية التي يكرسها عمل فعلي على الأرض إقامة للقواعد العسكرية و"احتلالا" للأرض بأمر الواقع.

 

وبجانب العمل العسكري، حصار للموانئ والمنافذ يمنع الدواء والغذاء عن شعب أعزل يعيش كارثة إنسانية لا تنفع معها دعايات الدعم من مراكز إغاثة أو هلال أحمر أو غيره من المنظمات. كانت ذريعة  الحصار منع تهريب السلاح إلى "العدو" لكن صدى الصواريخ البالستية صار حقيقة واقعة تشهد عليها سماء الرياض وتهديدات ضرب أبو ظبي.

وداخل منظومة التعاون الخليجي، حوصرت دولة شقيقة بدعوى التحالف مع إيران ودعم الإرهاب العالمي. ولتكريس الحصار، الذي حاولت الدول المعنية به تحويله لمجرد قرار سيادي بالمقاطعة، أغلق المنفذ البري الوحيد يوم العيد الوطني للشقيقة "الصغرى" إمعانا في تكريس الفرقة وقطع السبيل أمام كل محاولات رأب الصدع الإقليمي منها والدولي.

ولأن فقدان البوصلة صار وباء منتشرا، فقد شهدنا رئيس حكومة ذات سيادة يحتجز ويجبر على تقديم الاستقالة من منصبه لولا جنسيته الأجنبية التي حررته من "الأسر"، ومرشحا للانتخابات الرئاسية بدولة ذات سيادة يمنع من السفر للقاء جمهوره ويشحن بدلا عن ذلك في اتجاه مصيره المجهول حتى اليوم.

 

كما رأينا كيف تتوالى التهديدات بالرد على كل رأي يرتفع احتجاجا على "تخاذل" أو "تواطؤ" في عمليات بيع أراض وجزر أو نقل سفارات، آخرها كان ما تلا رفع صورة مركبة من جمهور رياضي جزائري.

 

أما السعي لإغلاق القنوات التلفزيونية "المعادية" بعد السيطرة الكلية على القنوات الموالية، فكان خبرا سارت به الركبان بعد انفضاح محاولات سابقة بدفع السيد الأمريكي لقصف مقراتها في سابق الأيام.

تعتقد الدول المارقة الجديدة أن "الحماية الأمريكية" لتجاوزاتها يقيها شر المحاسبة يوما ما. التجربة توضح أن السيد الأمريكي أول من يتخلى عن حلفائه السابقين في مواجهة المصير المحتوم إن لم يكن محرضا عليه. قبل أيام دعا الرئيس دونالد ترمب المملكة العربية السعودية لتخفيف حصارها على الموانئ اليمينية وتسهيل مرور المساعدات.

 

ويوما عن يوم تصدر التقارير الدولية المنددة باستخدام القوة الممنهج من دول التحالف العربي، وعلى رأسها السعودية، ضد البنية التحتية والمدنيين اليمنيين، بالإضافة لاستخدام أسلحة محرمة دولية فيما يعتبر لدى البعض "جرائم حرب" متكاملة الأركان. وفي الدول الأوربية تتعالى الأصوات، خصوصا بالبرلمان الأوروبي، لوقف تزويد المملكة بالسلاح.

 

التحقيقات الأممية تتواصل وتتناسل معها التسريبات، ومصطلح "الدولة المارقة" صار متداولا ومألوفا في توصيف المملكة ومعها دولة الإمارات. هيومان رايتس ووتش، لم تخلف الموعد وطالبت، يوم أمس، بفرض عقوبات على قادة التحالف إسوة بالعقوبات المفروضة على قادة تحالف صالح والحوثيين، والتركيز كان على وزير الدفاع السعودي وولي العهد محمد بن سلمان.

في العام 2002، تحدث جورج بوش الابن عن محور شر يضم العراق وإيران وكوريا الشمالية قبل أن يضيف إليها جون بولتون ليبيا وسوريا وكوبا. بعد خمس عشرة سنة، تبين أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتجرأ إلا على العراق وليبيا وسوريا، الدول العربية الوحيدة في التصنيف، وحولتها لدول فاشلة قبل أن تسلمها أسيرة للفوضى.

 

أما إيران فكان حظها اتفاقا نوويا، وكوبا نوعا من إعادة العلاقات ومع كوريا الشمالية تتواصل لعبة القط والفأر دون قدرة على الحسم.

 

إدخال الدول في دائرة المروق كثيرا ما يبدأ بدفعها، دون وعي، إلى مستنقعات الحرب خارج القانون الدولي. بعدها يتم تجميع الحساب ليوم الحساب الذي لا يتأخر خصوصا مع سن قوانين أمريكية بتحرير العراق ومعاقبة سوريا انتهاء بقانون جاستا، سيف دمقليس، الذي لا راد له مهما دفعت المملكة من مليارات ل"شراء" الرضا الأمريكي.

جرائم الحرب وما يدخل في نطاقها، جرائم لا تسقط بالتقادم. وتهمة المروق جاهزة ولا تنتظر غير الضوء الأخضر لتفعيلها.