القول بأن خلف قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية اعتبارات محلية، هو صحيح على الأرجح. قرار بهذا الحجم ما كان له أن يعلن بدون اتخاذ أثره على قاعدة الرئيس الانتخابية، سيما في مناطق وسط الغرب الأمريكي، بروتستنتية التوجه، في الاعتبار، وبدون حساب الدوافع الملحة لتأمين الاصطفاف الجمهوري خلف الرئيس، الذي يواجه سلسلة من الأزمات والتحديات السياسية. ولكن الافتراض بأن ترامب مجرد رئيس غبي، غريب على مؤسسة الحكم ويفتقد الدراية الضرورية بالسياسة الخارجية، هو افتراض خاطئ. يبدو ترامب شخصية غير معتادة، وغير قابل للتوقع دائماً. ولكنه ليس بالغباء الذي يفترضه بعض مراقبي رئاسته.
إن لم يكن الرئيس قدر ردود الفعل العربية والإسلامية المحتملة لقراره، فلابد أن مؤسسات الدولة المختلفة، وذوي الخبرة المتراكمة في الشأن الخارجي من حوله، وفي شؤون الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، قد أخبروه بما يمكن أن يولده قراره من ردود فعل.
قرار القدس لم يتخذ بصورة مفاجئة، كما أن الرئيس، وبعض من كبار شخصيات إدارته، كرر الإشارة للمسألة طوال الشهور منذ تولي إدارته مقاليد البيت الأبيض. بمعنى، أن زمناً كافياً استهلك في دراسة المسألة بكافة جوانبها، وأن الرئيس كان يعرف أن قراره لن يمر بدون عواقب. اتخذ ترامب قراره ضمن تصور خاص بعلاقة الولايات المتحدة، والغرب ككل، بالعرب والمسلمين، تصور يستند إلى رؤية صراعية، إلى اعتقاد بوجود خطر إسلامي، يهدد الحضارة الغربية وموقع الولايات المتحدة، بغض النظر عن سذاجة هكذا رؤية للعرب والمسلمين.
إن كان أوباما، ولأسباب لا مجال هنا لتعدادها، بدأ عهده بمحاولة إعادة بناء صورة الولايات المتحدة في العالم، وفي العالم الإسلامي، بصورة خاصة، وبتبني خطاب تصالحي مع العرب والمسلمين، فإن ترامب يعمل من البداية على تأجيج مناخ الصراع والمواجهة.
ولهذا السبب بصورة رئيسية، وقبل أي سبب آخر، لابد من الرد على ترامب وقراره. يمثل القرار الأمريكي، بلا شك، استهتاراً بالقانون الدولي وأكثر من قرار لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ويمثل انحيازاً سافراً للدولة العبرية، وتخلياً فعلياً عن دور الوسيط في المسار التفاوضي لحل المسألة الفلسطينية؛ ويمثل استهانة بحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المشرق، قبل خصومها؛ كما يعتبر خطوة انفرادية، لم تؤيدها ولا تقبلتها أي من دول العالم الأخرى.
وهذه أسباب كافية لإطلاق رد عربي وإسلامي، بالرغم من أن القرار الأمريكي لن يغير كثيراً في أرض الواقع، لا على صعيد سياسات إسرائيل التهويدية، ولا على صعيد مصادرة الأرض وبناء المستوطنات. ولكن، قبل هذه الأسباب وبعدها، ثمة سبب لا ينبغي تجاهله أو ارتكاب الخطأ في قراءته: أن هذا الرئيس يتعمد بالفعل تبني سياسات عدوانية ضد العالمين العربي والإسلامي، حتى عندما تعارضه مؤسسات الدولة الأمريكية الأخيرة، وعلى صناعة الانطباع بأنه بصدد تعهد حرب شاملة ضد قيم ومحرمات العرب والمسلمين، سواء لأن هكذا سياسة تؤمن له دعم قاعدته الانتخابية الصلبة، أو لأنه مقتنع فعلاً بأوهام التهديد العربي والإسلامي.
وكان جديراً بخطوة ترامب العدوانية، بالفعل، أن تواجه بإدانة شاملة في مجلس الأمن الدولي، ومن كافة العواصم الغريبة؛ وأن دولة عربية أو إسلامية واحدة لم تستطع السكوت عليها أو تأييدها، حتى تلك الدول التي ربما حسب ترامب أنها ستدعم موقفه. لم يعد خافياً، بالتأكيد، أن إدارة ترامب كانت تعمل على تسوية جديدة للمسألة الفلسطينية، وأن فلسفة هذه المبادرة، التي تشتغل عليها مجموعة من المسؤولين الأمريكيين اليهود، المعروفين بتأييدهم للمشروع الصهيوني، تقوم على تطبيع عربي شامل مع الدولة العبرية، قبل المضي نحو طرح إطار لإنهاء الصراع على فلسطين.
لم يرشح الكثير مما تتصوره واشنطن ترامب لما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون، ولكن ما عرف من ردود فعل الرئيس الفلسطيني على ما تسلمه من مقترحات لا يبعث على الاطمئنان. فإن كان أبو مازن، الذي سبق أن أكد في مناسبات عديدة عدم تأييده أي صورة لمقاومة الاحتلال، وعلى إيمانه المطلق بأن المفاوضات هي السبيل الوحيد للحصول على الحقوق الفلسطينية، لا يستطيع قبول مقترحات إدارة ترامب للتسوية، فربما بات من الممكن للفلسطينيين تصور ما يطبخ لقضيتهم في أوساط الإدارة الأمريكية.
بارتكاب خطوة الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، كشف قناع الصمت واللامبالاة عن أصدقاء ترامب، عرباً كانوا أو غير عرب، الذين كانوا يستعدون للذهاب بعيداً في التطبيع مع الدولة العبرية.
كما كشف قناع الصمت واللامبالاة عن أولئك الذين هجروا أهالي بعقوبة والحويجة، وعملوا على إبادة أهالي حلب وريف دمشق، باسم المقاومة. ولكن أحداً لا يمكن له أن يغفل عن أن النتيجة الأوضح والأكثر مضاء لقرار الرئيس الأمريكي تحققت في شوارع المدن العربية والإسلامية، من لاهور وديار بكر إلى القاهرة والرباط، وفي شوارع المدن والبلدات الفلسطينية. الفلسطينيون بدأوا انتفاضتهم الثالثة، والعرب والمسلمون يستعيدون قضيتهم الكبرى، وعماد وحدتهم عبر السنين. إن كان ترامب حسب أن باستطاعته لعب دور آلهة الحرب المقدسة بدون عواقب، فها هو الرد عليه آخذ في التبلور؛ وستكون إسرائيل نتنياهو، التي سارعت إلى الاحتفال بقرار الرئيس المتأزم، من يتحمل النصيب الأكبر من العواقب.
بيد أن عودة الشعب إلى ساحة الصراع، في فلسطين وخارجها، لن يكفي وحده لبناء توازن قوة جديد. ثمة واجبات على سلطة الحكم الذاتي ادراكها؛ ليست مستجدة، بالتأكيد، ولكن القرار الأمريكي جعلها بلا شك أكثر إلحاحاً، ويوفر فرصة مواتية لتعهدها. أحسن الرئيس الفلسطيني في إعلانه رفض القرار الأمريكي، أحسن في التقدم لمجلس الأمن الدولي بشكوى ضد القرار، أحسن في إعلانه إلغاء اللقاء مع نائب الرئيس الأمريكي، كما أحسن في إيقاف أجهزته الأمنية عن التصدي لجموع الشباب والشابات الذين يخوضون المواجهة مع قوات الاحتلال في شوارع المدن والبلدات الفلسطينية. ولكن، لا الرئيس عباس، ولا سلطة الحكم الذاتي، يمكن لهما الاستمرار في سياسة التصدي للسياسات العدوانية الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي في ظل الشروط الراهنة. يعرف عباس أن سلطته رهينة المساعدات الأمريكية ومساعدات الدول الصديقة لواشنطن، العربية منها وغير العربية؛ كما أنها أسيرة التحكم الإسرائيلي في المقدرات المتاحة للسلطة، المالية وغير المالية. ويعرف عباس أن استمراره في التزام موقف متوافق مع موقف شعبه، يعني فرض عقوبات وضعوط باهظة عليه وعلى السلطة. السلطة الفلسطينية لا تستطيع حتى وقف التعاون الأمني مع العدو المحتل. المسألة، باختصار، أن على الرئيس الفلسطيني اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى، أن يدرك أن السلطة أصبحت عبئاً على النضال الوطني الفلسطيني، وليست مكسباً لهذا النضال.
حل سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية كفيل بتحرير النضال الوطني من أعباء الارتهان للولايات المتحدة وحلفائها، ولحكومة نتنياهو؛ حل السلطة يعني إعادة الصراع إلى قاعدته الأولية البسيطة والواضحة: الشعب في مواجهة الاحتلال. وإن كان البعض لم يعد باستطاعته العيش بدون سلطة، فربما يمكن الانتقال بمؤسسات الحكم الذاتي، أو ما يصلح منها، من رام الله إلى قطاع غزة، الذي هو بالفعل أرض فلسطينية محررة، والمشاركة في الدفاع عن حريته. الاعتقاد بأن ترامب سيتراجع عن قراره ليس سوى وهم. ما تفرضه الوقائع ليس التعلق بأوهام تغيير جزئية في الموقف، بل نقلة كبرى في أهداف المشروع الوطني واستراتيجيته.