لم تتمكن، مع الأسف، المبادرةُ الثلاثية لدول جوار ليبيا ) الجزائر، تونس، مصر(، الملتئمة مؤخرا في العاصمة التونسية من كسر جليد الفرقاء المتنازعين في ليبيا منذ سنوات، وإن نجح الوسيط ألأممي "غسان سلامة" في استقدام وفد " مجلس الدولة" من طرابلس، ووفد "برلمان طُبرق" في الشرق، وجمعهما على طاولة واحدة، للتحاور، وإنصات الواحد للآخر، عسى أن يفسحا المجال لفتح الطريق أمام المصالحة الوطنية الليبية، وتجنيب بلدهم دروبَ " الدولة الفاشلة".
يبدو المبعوث ألأممي إلى ليبيا ـ أستاذ العلوم السياسية السابق، ووزير الثقافة في حكومة " رفيق الحريري" )2000 ـ 2003(، وذو الخبرة في مجال الوساطة الدولية ، حيث كان ضمن وفد الأمم المتحدة إلى العراق ـ في منزلة بين المنزلتين بخصوص رؤيته لمستقبل ليبيا، فلا هو متفائل، ولا متشائم، وإنما واقعي ، كما عبر عن ذلك صراحة.
لذلك، حين نُمعن النظر في خطته لبناء السلام في ليبيا، المقدمة في سبتمبر/ أيلول الماضي ) 2016(، و نتأمل في منطلقاتها السياسية والإجرائية، ومقاصدها العامة، نُدرك كم كانت خِبرةُ الرجل الأكاديمية، وفهمه العميق للعالم العربي وأنماط الثقافة السائدة في مجتمعاته، وإطلاعه الواسع على التفاعلات الإقليمية والدولية، حاضرةً وموجِّهةً لفلسفة هذه الخطوة ومداخل تحققها، أي نجاحها.
لذلك، تنطلق الخطة، الممتدة على سنة كاملة، من أن الوساطة الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة هي الآلية الممكنة لبناء السلام في ليبيا، وأن ليبيا المستقبل يجب أن تكون حاضِنةً لجميع الليبيين، بغض النظر عن خلفياتهم ومواقعهم، وعلى الجميع الانخراط في العملية السياسية، بما في ذلك بقايا النظام السابق ، والعهد الملكي.. فليبيا ، في تقدير المبعوث ألأممي، تتسع للجميع، وقوة عودة السلام إلى ربوعها واستقرارها، تكمن في احتضانها للكل دون استثناء.
لكن تحتاج ليبيا، بالمقابل، إلى إرادة أبنائها أولا، واستعدادهم الجماعي لإعادة بناء بلدهم، على قاعدة مصفوفة من القيم والقواعد الجديدة، وتحتاج أيضا إلى دعم القوى الإقليمية والجهوية لإنجاح العملية السياسية، كما تناشد المجتمع الدولي، ولاسيما قواه الكبرى، لأن يكون فعالا في البناء الجديد لليبيا.. فالبناء الجديد عملية جماعية معقدة ومركبة، ويصعب على الليبيين وحدهم، مهما كانت طاقاتهم، إنجازه دون تحقيق التأييد الإقليمي والعالمي حول الخطة و مقاصدها و أبعادها.
علاوة على ما سبق ذكره، يعتبر المبعوث ألأممي " غسان سلامة" "اتفاق الصخيرات" ، المبرم أواخر 2015، في حاجة تعديل ليُصبح متوافقاً مع التطورات التي عرفتها ليبيا في السنتين الأخيرتين، وهذا ما حصل فعلا، حيث تمكن الوسيط ألأممي من الإشراف على إدخال التعديلات اللازمة لجعل وثيقة الصخيرات مقبولة، وقابلة للتنفيذ.
أما جوهر التعديل فطالت قضية الفصل بين مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء وعدم الجمع بينهما، كما هو حاصل مع " فائز السراج"، كما منع على أي عضو في مجلس الرئاسة أو مجلس الوزراء مزاولة مهام أخرى إضافة إلى عضويته في الهيئتين المذكورتين، حتى لا يقع تضارب للمصالح، أو تصلح اختلالات ، كما سادت في الماضي.
ومن جهة أخرى، ولعلها من نقاط التعديل الأساسية، تحديد صلاحيات " القائد العسكري"، أي قائد الجيش المعين من لدن البرلمان، كي يصبح خاضعاً لمرجعية مدنية، وتغدو صلاحياته واضحة ومحددة، أو مطلقة ، كما يتمسك بذلك " خليفة حفتر"، بحسبه قائدا للمؤسسة العسكرية..
والحقيقة أن إدماج الهيئة العسكرية ضمن النسيج المدني ومؤسساته السياسية، سيكون من المهام الإستراتيجية إن نجحت خطة الوسيط ألأممي في تحقيقه.
حَدَّدت خطةُ " غسان سلامة" طبعا سقفاً ومراحل للإنجاز. وحصرت مهام وإجراءات كل مرحلة من المراحل الممتدة حتى خريف 2018، التاريخ المتوقع لإنهاء بناء السلام في ليبيا.
فهكذا، يُنتظر أن يُعقد مؤتمر وطني عام شهر فبراير/ شباط 2018، يمكن اعتباره إطاراً ومقدمةً ضروريةً للمصالحة الوطنية، تَسبِقه بشهور سلسلةُ الاتصالات بكل الأطراف المُمثلة للنسيج الاجتماعي والسياسي الليبي، بدون استثناء أو إقصاء، والتحاور في ما بينها حول أسس وقواعد البناء الجديد في ليبيا. ومن ثمة يُصار إلى مؤتمر وطني لرسم الخطوات العملية لإنهاء مؤسسات البناء الجديد، من انتخابات تشريعية ورئاسية، ووضع دستور للبلاد، وإدماج كل الفصائل والميليشيات، وتوحيد المؤسسة العسكرية، لتصبح موجّهة ومحكومة بمرجعية مدنية.
لاشك أن الرؤية الناظمة للخطة الأممية واضحة ومتماسكة وسالِكة على مستوى التطبيق والتنفيذ، وبدون شك أن مهندسها " غسان سلامة"، وظف، كما أسلفنا الإشارة، كل أرصدة خبرته، ويبدو كله عزم وإرادة وتصميم للنجاح في ترك بصمته في مسلسل السلام الجديد في ليبيا ما بعد فبراير/ شباط 2011، بيد أن مشروعَه، وهذا ما تحدث عنه بصراحة في أروقة الأمم المتحدة حين تقديم خطته للمنتظم الدولي، محاط بتحديات غير بسيطة، بل معقدة ومتشابكة .
ففي ليبيا ما بعد سقوط النظام، تكون فئات اجتماعية اغتنت بغنائم الاضطرابات التي عمّت البلاد، عبر وضع اليد على النفط والغاز، والاتجار في البشر، والاستيلاء بغير حق على الممتلكات العامة والخاصة، والقائمة طويلة من الممارسات المدمرة لكيان الدولة. والخطورة لم تكن نابعة من الداخل فحسب، بل تقوّت من دعم أطراف من خارج ليبيا لها طبعا نصيبها من غنيمة الفوضى التي عمّت البلاد.
ثم إن الفراغ المؤسساتي، وضعف ثقافة التمثيلية والوساطة، أي ضمور فكرة الحزبية والنقابية، وكل من شأنه أن يلحم العلاقة بين الدولة والمجتمع سابقا، ضاعف تعقيدات الوضع في ليبيا، وقد يُضعف حظوظ نجاح خطة الوسيط ألأممي " غسان سلامة"، على الرغم من وضوح رؤيتها وتماسك آليات تنفيذها، والإرادة الكبيرة التي لمهندسها من أجل توفير شروط نجاحها.