استعادة الرقّة من تنظيم "الدولة الإسلامية" دشّنت مرحلة جديدة في الأزمة السورية، قوامها مَن يدير محافظة الرقّة وكيف ولأي هدف. وفيما كان التوافق على إنهاء سيطرة "داعش" وطرده قائما وعلنيا، بين الأطراف الدولية والإقليمية، إلا أنه كان شكليا، بدليل أن التناقضات التي بدأت تظهر من شأنها أن تخلق صراعات لاحقة.
فمن جهة كشفت المراحل الأخيرة من الحرب على التنظيم تغلغل الدول وأجهزتها في صفوفه، وسعيها إلى سحب عملائها قبيل الهجمات الأخيرة، ومن جهة أخرى نشأ سباق بين تلك الدول إلى لملمة فلول التنظيم واستيعابها بغية إعادة تدويرها لاحقا.
في الوقت نفسه يبدو الصراع على دير الزور، المعقل الأخير وحقوله ومنشآته النفطية، أكثر انكشافا في جانبه الدولي، تحديدا بـ"تقاسماته" الأمريكية - الروسية، ذاك أنه كان باستطاعة مقاتلي الميليشيات الإيرانية المقاتلين تحت مسمّى "قوات النظام" خوض المعركة في عموم محافظة دير الزور بغطاء جوّي روسي، غير أن موسكو شاءت تغليب "تفاهماتها" مع واشنطن على معطيات الوضع الميداني، وتركت أكراد "قوات سوريا الديمقراطية" يتقدمون شرقي المحافظة، وتعمل حاليا على استقطابهم واستمالتهم سياسيا بحيث لا يكونون ورقة يحتكرها الأمريكيون.
ما إن أُعلن أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تعتزم تخصيص تمويل عاجل للرقة حتى ردّت روسيا بموقف مستغرب يمزج الترحيب "بأي مساعدة" بالتساؤل "لماذا الرقّة وحدها؟". إذ قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إن بلاده ناشدت الأمريكيين والأوروبيين خلال الأعوام الماضية "إرسال مساعدات إنسانية إلى سوريا، ولم نلقَ منهم أي تجاوب"، وعزا المساعدة العاجلة إلى الرغبة في "إخفاء آثار القصف الوحشي لطيران التحالف الدولي والأمريكي، ودفن آلاف المدنيين تحت الأنقاض في الرقة". لماذا هذا القلق الروسي، خصوصا أن "مناشدات المساعدة" المشار إليها لم يكن لها أثر في الأنباء، ثم إن مصير مدنيي الرقّة بالقصف الأمريكي لا يختلف عن مصير مدنيي حلب بالقصف الروسي، فكلاهما كان مأساويا والقصف في الحالَين كان وحشيا.
الواقع أن موسكو تروّج حاليا لعملية بقيادتها لإعادة الإعمار في سوريا، وتبدي انزعاجا من الشروط الأمريكية والأوروبية، ولذلك تنظر إلى محاولة إنعاش الرقة بارتياب، كونها منطقة خارج سيطرة النظام، أي خارج سيطرتها.
تعاني استراتيجية روسيا السورية مشكلة مزدوجة. فهي من جهة لم تكن تملك تصوّرا لنهاية الصراع المسلح ولا لما بعده، إلا أنها توصّلت بعد عامين من التدخّل المباشر إلى خطط تحاول تطبيقها على الأرض، وتحتاج فيها إلى شركاء (أمريكا والأردن وإسرائيل في الجنوب، تركيا في الشمال، دول الخليج في خلفية المشهد...)، ومن جهة أخرى تريد استخدام هذه الخطط في مساومات لا علاقة لها بالوضع السوري (مقايضات في أوكرانيا وملفات الدفاع في أوروبا...)، لكن الأطراف الغربية تستبعد مساومات كهذه.
ثمة جديد هو أن واشنطن توشك أن تعلن عن استراتيجية تمهّد لعودتها إلى التعاطي مع الأزمة السورية، والمعروف من عناصرها أنها تدعم حكما محليا في مناطق الشمال والجنوب التي لا يسيطر عليها النظام في انتظار بلورة حل سياسي. بل إن أمريكا تسعى إلى "مناطقها" للضغط على روسيا كي تشارك، بشكل أو بآخر، في تحجيم نفوذ إيران وصولا إلى إخراجها من سوريا. وأقلّ ما يعنيه ذلك أن حربا في صدد أن تلد حربا أخرى في سوريا.
العرب القطرية