ساهم التمويل السعودي الرسمي والشعبي المخصص لدعم مجموعات وهيئات ومراكز سلفية خارج
السعودية إلى انتشار الدعوة
السلفية في العقود الأخيرة بشكل كبير ولافت.
ووفقا لباحثين فإن "المؤسسة الدينية السعودية عمدت في العقود السابقة إلى توظيف دعاة ووعاظ في دول مختلفة من مواطني تلك الدول، وخصصت لهم رواتب ومكافآت شهرية، لنشر الدعوة السلفية بنسختها
الوهابية خارج السعودية".
وأقر داعية سلفي (غير سعودي) اشترط عدم ذكر اسمه أن السعودية كانت تدعم بسخاء مشاريع ونشاطات السلفيين المنسجمين تماما مع نسقها الدعوي خارج السعودية، مشيرا إلى "أن الكثير من ذلك الدعم توقف منذ فترة سابقة".
وأبدى الداعية السلفي أسفه على الحالة التي تمر بها السلفية هذه الأيام، واصفا إياها "بأنها تعيش أسوأ مراحلها، وتنتظر التشكيل الجديد من التدين الذي سيلاقي إعجاب الممول السعودي الحكومي".
واعتبر الداعية السلفي أن "تأثير التحولات الجديدة في السعودية ليس وليد اللحظة بل هو قديم، وبتعبير أدق ولدت سلفية السعودية مشوهة بعض الشيء فيما يتلعق بالشأن السياسي"، مضيفا أن "التشوه زاد بولادة الدولة السعودية الثالثة، ثم وصل إلى القاع بعد أزمة الخليج".
وتابع: "أما المرحلة الآنية فهي ما بعد القاع، لأنها مرحلة لا تقبل أنصاف الحلول، وأنصاف التحولات، بل التسليم المطلق، وهذا ينعكس على السلفية خارج السعودية بلا شك بتقليص الدعم لمن يخرج عن هذا النمط، ودعم من يسير على هذا التوجه".
ووصف الداعية السلفي ما تمر به السلفية بقوله: "نحن أمام تحول كبير، نحن أمام دفن تيار قديم بتراثه ومشايخه وفكره، وولادة خليط من السلفية والصوفية والسلطانية والليبرالية".
وجوابا عن سؤال "
عربي21": ما مدى تأثير فشل تجارب سلفية أخرى كسلفية الإسكندرية، وذراعها السياسي حزب النور، وجماعات السلفية الجهادية على انتشار
التدين السلفي؟ قال الداعية: "مدى التأثير كبير على عدة مستويات: على مستوى التدين نفسه، وعلى مستوى السلفية نفسها، وعلى علاقاتها مع فروعها، ومع الجماعات الأخرى".
من جهته أوضح الباحث الشرعي الأردني، أمين حديد أن "عمق الظاهرة السلفية بخلفياتها ومساراتها يجعل من الإطار السياسي، وليس الثقافي أو الاجتماعي هو الأقرب لفهم أسباب وتداعيات التحولات الأخيرة في علاقة السعودية بالسلفية الوهابية".
وأضاف لـ"
عربي21": "لقد شكلت أحداث سياسية كهجمات سبتمبر، وظهور تنظيمي القاعدة والدولة، واستمدادهما من السلفية الوهابية حرجا بالغا للنظام السعودي، مما جعل الإجراءات الحكومية الأخيرة هي حصيلة ضغوط واتفاقات، وترتيبات سياسية بين النظام والدول الكبرى، لا يمكن فهمها إلا في هذا السياق".
وذكر حديد أن "أبرز ملامح وحدود ذلك التغيير تمثلت في التخلص من المؤسسات الدينية الرسمية، والتي جسدت بصورة رمزية التحالف التاريخي بين آل سعود والوهابية، كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهيئة كبار العلماء، والمنظمات الخيرية والدعوية ذات الفروع الدولية كالندوة العالمية وهيئة الإغاثة..".
وتابع حديد قوله: "وتغيير المناهج الدراسية، وإزالة كل المعالم العقدية الأساسية التي تثير حفيظة الغرب كالولاء والبراء، والحاكمية، والتشبه بالكفار وإعانتهم على المسلمين، وضلال الشيعة ونحوها، ثم النفوذ لمؤسسة القضاء ونزع الصبغة الدينية عنها، وإعطاء دور أكبر لكليات القانون على حساب كليات الشريعة".
ولفت حديد إلى بعض مظاهر التغيير الجديدة في السعودية كـ"تشجيع الانفتاح الاجتماعي المرتبط بقضايا المرأة وصورتها، مع إجراءات أمنية قمعية متمثلة في الحملات الواسعة لسجن الدعاة والعلماء المحسوبين على الوهابية والإسلام السياسي عموما".
وجوابا عن سؤال: ما هي البدائل الداخلية والخارجية التي ستحل محل السلفية؟ قال حديد: "البدائل الداخلية في نظري ستكون دعما أكبر للعلمانية والليبرالية الصريحة، مع ما يتبع ذلك من التخلي عن كل صور ومظاهر التبني الرسمي لأي شكل من أشكال التدين، والاستعاضة بدور شكلي للدين بالاعتماد على شخصيات مستقلة ـ غير ذات ماض سلفي معروف ـ والتماهي مع سلوك الأنظمة العربية الأخرى في الاكتفاء بمنصب المفتي العام".
وأشار الباحث الشرعي حديد إلى أن "السلفية الوهابية ستبقى تتحرك في الفضاء العام، لأنها تشكل تيار التدين الشعبي الذي لا يمكن مجابهته بالكلية بإجراءات فورية أو قرارات حكومية، مع تطعيم المناهج الدراسية والشرعية بجرعات حداثية وليبرالية".
وأضاف: "وقد يتم تطوير تدريجي لبدائل دينية من خارج كل الأطر السلفية ـ تأسيا بالإمارات ـ عبر تقريب الطرق الصوفية وتقديم مشايخها، لكنه يحتاج إلى وقت طويل لتعارضه مع المزاج الديني الذي تم ترسيخه عبر العقود السابقة".
أما البدائل الخارجية طبقا لحديد فإن "الدعم السعودي للمؤسسات والهيئات والمراكز الدينية خارج السعودية تقلص إلى حد كبير منذ 11 سبتمبر، وكاد أن يقتصر على نوع واحد من السلفية المحافظة (المدخلية)، التي ستجد نفسها هي الأخرى تعمل في أجواء التضييق غير المعتادة عليه، ما سيدفعها للتكيف القصري مع العهد الجديد".
في السياق ذاته رأى الباحث السياسي المصري، محمد جلال القصاص "أن السلفية المعاصرة، وخاصة القادمة من "نجد" هي أحد أدوات الفاعل السياسي، والتحولات الرئيسية فيها تخضع لإرادة السياسي، وتحقق أهدافه"، معتبرا هذا التوصيف "بمثابة مفتاح يسعفنا كثيرا في فهم ما حدث ويحدث في الحالة السلفية عموما، والوهابية منها على وجه الخصوص".
وساق القصاص في حديثه لـ"
عربي21" جملة من الشواهد للتدليل على رأيه السابق، "فالسلفية ظهرت للقضاء على التعصب المذهبي، ثم تحولت هي إلى مذهب عقدي اهتم بقضايا الفرد، وابتعد عن قضايا المجمتع (القضايا السياسية الكلية)، ما أنتج حالة من التوافق الضمني بين السلفيين والأنظمة المستبدة، فالأنظمة اختصت بقضايا السياسة وإدارة المجتمع، وتركوا للسلفيين قضية التدين الفردي، بما يشبه العلمانية" على حد قوله.
وأضاف القصاص في سرده للشواهد قائلا: "بعد فشل القوميين العرب، وإعلان وفاتهم عقب نكسة حزيران 67، وعودة المد الصحوي مرة ثانية، تم الدفع بالتدين السلفي للقضاء على بقايا اليسار، وليتم إشغال الناس بقضايا الفرد، دون قضايا الأمة"، لافتا إلى أن "سلفية مصر ومن حولها ظهرت في هذا السياق، لتنشغل هي الأخرى بالتدين الفردي وبما يخدم في الوقت نفسه الاستبداد السياسي".
ورصد القصاص طبيعة أداء السلفيين بعد أحداث "الربيع العربي"، حينما عاد الناس للمتدينين ثانية للتخلص من المستبدين، واصفا دور السلفيين بأنه جاء في إطار "مناكفة الحركات الإسلامية الإصلاحية، من خلال المقالات والكتب المخصصة لكشف وتشخيص خريطة الإسلاميين، ثم تبنوا قضايا زايدوا فيها على المشتغلين بالإصلاح السياسي، مثل قضية الهوية، ورفض التعامل مع إيران.. لكنهم في نهاية المطاف انضموا بشكل صريح للمستبدين".
واعتبر الباحث السياسي المصري أن ما تمر به الحالة السلفية حاليا، يأتي في سياق التوجهات الخليجية الداعمة للثورات المضادة، التي تتحكم بجزء كبير من المشهد بأدواتها المختلفة".
وتابع قوله: "يتم تشكيل الحالة السلفية من جديد لتظل أداة طيعة بيد السياسي، فالقاسم المشترك بين سلفية الأمس، وسلفية اليوم هو إثارة القلاقل في أوساط الصحوة الإسلامية، وقابليتها التامة للقيام بالدور الذي يخدم السياسي".
وخلص القصاص إلى القول بأن "التدين السلفي سينحسر كثيرا في قادم الأيام لعدة أسباب، من أهمها: سقوط رموزه سقوطا مدويا، واستعاضة بعض الأنظمة عنهم بالرسميين (الأزهرية مثلا)، وظهور النقد الحاد داخل الحالة السلفية نفسها" مرجحا ظهور أشكال جديدة من التدين رافضة للظلم والاستبداد، ومطالبة بالحرية والعدالة وتطبيق الشريعة.