ما زالت أزمة الإخوان المسلمين المصريين تراوح مكانها. نظرياً، الكل إخوان، أما عملياً فهناك جناح يتمسك برداء الشرعية التاريخية والتنظيمية وبيده مقاليد كثير من الأمور، بما في ذلك ما تبقى للجماعة من مؤسسات وممتلكات، وفي مقابله جناح ثائر يرى بأن تلك الشرعية قد انتهت صلاحيتها، وحلت مكانها شرعية انتخابية، بها يتذرع أصحاب هذا الجناح وعليها يعتمدون.
ألتقي من حين لآخر بإخوان من الطرفين. لا يساورني شك بأن هؤلاء وأولئك يريدون الخير لجماعتهم، ويغلب على ظني أنهم جميعاً صادقون فيما يزعمون، رغم اختلاف الرؤية وتباين تشخيص الحالة المرضية التي باتت تعاني منها الجماعة وتكاد تفتك بها. ولولا أنها ماتزال المستهدف الأول من حرب الطغاة وأوليائهم على ما يسمى بالإسلام السياسي لربما انهار البيت الإخواني على رؤوس ساكنيه منذ زمن لما أصابه من أضرار جسيمة. وتلك مفارقة عجيبة، أن يكون من أهم أسباب استمرار الإخوان كجماعة وتنظيم وتيار ما يتعرضون له في الداخل والخارج من حرب شعواء، حتى كادت الحرب العالمية على الإرهاب تتحول إلى حرب على الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى.
على كل حال، كلما التقيت بهؤلاء الإخوان ازددت قناعة بأن الفتق الحاصل يعجز عنه كل راقع، وتفهمت أكثر وأكثر سبب فشل كافة الوساطات التي بذلت حتى الآن لرأب الصدع ولم الشمل وتجاوز الخلاف. فالنزاع ليس على رؤية ولا على فكرة بقدر ما هو على قيادة وعلى اسم وهوية.
إذن، فما الحل؟
منتسبو الجناح الثائر من الإخوان لديهم ملاحظات وتحفظات وانتقادات كثيرة، لا تقتصر على فترة ما بعد المحنة الأخيرة التي يؤرخ لها البعض بانطلاق شرارة الثورة في مصر في الخامس والعشرين من يناير 2011، بينما يؤرخ لها البعض الآخر بالانقضاض على الثورة في حراك 30 يونيو أو انقلاب 3 يوليو 2013 وإسقاط الرئيس المنتخب محمد مرسي، فك الله أسره وأسر إخوانه. وسواء كانت تلك الملاحظات والتحفظات والانتقادات معقولة أو مبالغاً فيها، وبعضها من هذا وبعضها من ذاك، ما من شك في أن المحنة تضفي عليها زخماً، وما آلت إليه أوضاع الإخوان بعد المحنة – وخاصة ضعف الأداء وغياب القيادة في الداخل وترهلها وتهافتها وتخبطها في الخارج، وحالة الإحباط واليأس التي نالت من بعض الإخوان – كل ذلك كفيل بأن يحول كل صغيرة إلى كبيرة، ويجعل من اللمم في نظر البعض ذنوباً لا تغتفر. وتلك، على كل حال، هي حال البشر. وصدق الله العظيم القائل "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون".
يكمن حل الأزمة في الإجابة على السؤال التالي: "هل الإخوان غاية أم وسيلة؟"..
إذا لم تكن هذه الجماعة بذاتها غاية، بل مجرد وسيلة للوصول إلى الغاية - التي هي رضا الله تعالى، فلماذا التمسك بها بأي ثمن ومنازعة من يدعي الشرعية التاريخية والتنظيمية على اسمها وهويتها؟ وإذا كان هذا التنازع يؤدي إلى شق الجماعة، فما الفائدة التي ترجى من مثل هذا التنازع أصلاً؟ وصدق الله العظيم القائل: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
لا أرى سبيلاً أمام الجناح الثائر من الإخوان لحل هذه المعضلة سوى واحد من خيارين لا ثالث لهما: إما أن يعودوا إلى الجماعة طائعين لقيادتها في المكره والمنشط، ويسعوا لإصلاح ما يحسبونه خللاً من داخلها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإما أن يعلنوا تشكيل إطار آخر باسم مختلف يسعون من خلاله لتحقيق ما يرون أنه بات مستحيلاً ضمن الجماعة في وضعها الحالي وبقيادتها الحالية التي باتوا يرفضون، وهم على قناعة بأنها لا تصلح لإدارة مدرسة صغيرة ناهيك عن أن تقود جماعة يعد أعضاؤها حول العالم بالملايين.
لو افترضنا أن الجناح الثائر من الإخوان محق في كثير مما يدعيه، فإنه لن يحقق الكثير مما يطمح إليه من خلال الإصرار على أنه التيار الإخواني الذي يتمتع بالشرعية الانتخابية، فهذا لا يعني الكثير على أرض الواقع. ويبدو لي أن ميزان القوة داخل الجماعة ليس لصالح هذا التيار حتى الآن، وليس مرشحاً لأن يترجح.
ولكن، ورغم أن حال الجماعة لا يسر، إلا أن أحداً لم ينجح حتى الآن، رغم كل النقد الذي وجه إليها من داخلها ومن خارجها، في إيجاد بديل لها ذي مصداقية. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه جناح الثائرين من الإخوان. ولهم في تجربة حزب الوسط، وفي غيرها من تجارب من انشق عن الجماعة أو استقل عنها سواء في مصر أو في الأردن أو في الجزائر أو في غيرها، الكثير من العبر. فشباب الوسط الذين خرجوا من الجماعة، أو أخرجوا، قبل ما يزيد على عشرين عاماً – وكانوا في حينها أصحاب حق ومظلمة – لم ينجحوا في تقديم بديل عن الإخوان. وما لبث الإخوان أن تجاوزوا تلك الأزمة العابرة، وشقوا طريقهم لتوصلهم الثورة المصرية إلى الحكم، بينما ظل حزب الوسط مقتصراً على نفر قليل من المؤسسين وبعض المتعاطفين معهم.
وفي الأردن، كان لجماعة مبادرة زمزم تحفظات وانتقادات، أصابوا في بعضها بلا شك، ولم يصبروا داخل الجماعة على إصلاحها من الداخل، فانتهى بهم الأمر خارج الإخوان دون أن يحققوا شيئاً يذكر، وكان مصير جمعية الإخوان التي تشكلت من قيادات سابقة غاضبة أسوأ من ذلك بكثير، بدليل ما منوا به من إخفاقات في الانتخابات النيابية ثم البلدية، ناهيك عن أن تنظيم الإخوان في الأردن ظل إلى حد كبير متماسكاً، لم ينل منه لا هؤلاء ولا أولئك. وأما الجزائر، فتشرذم الإخوان فيها شر تشرذم، مما كان له أوخم التبعات على العمل الإسلامي المنظم، وكانت كلها نزاعات على مواقع ومكاسب متوهمة، ما لبث أن عاد بعضهم من بعد إلى رشده فسعى إلى رأب الصدع وإعادة اللحمة، ومازالوا يحاولون.
لا أقصد بذلك الجزم بأن كل من يخرج من الإخوان لن ينجح في مسعاه. بل من يدري؟ فلعلنا نشهد قيام مشروع جديد، يتجاوز الحركة الأم، ويتغلب على المحنة وينجح في تجديد الدعوة بعد ما تلقته من ضربات قاصمة، وما تزال. إلا أن من يريد أن يسير في هذا الطريق عليه أن يتيقن من أن لديه وضوحاً في الرؤية، وإخلاصاً في النية، وتجرداً من كل هوى، وإدراكاً عملياً بأن الظروف الأمنية التي تعمل فيها كافة الجماعات السياسية المحظورة أو المقيدة – إسلامية أو يسارية – تنتهي إلى نفس التحديات وتصطدم بنفس العقبات، والتي يغذيها عدم القدرة على ممارسة قدر كاف من الشفافية، فتضعف آليات المساءلة والمحاسبة أو تتجمد، ويصعب في مثل هذه الأجواء الحفاظ على صمام أمان فعال ضد الفساد المالي وضد الفئوية والكولسة، إلا من رحم ربي.
ليست جماعة الإخوان المسلمين هي الإسلام، بل هي مشروع للإصلاح تقوم عليه فئة ليست معصومة، وليست عصية على الانكسار والفناء. فدين الله الإسلام هو الذي تعهد الله بحفظه، وما قامت جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات إلا اجتهاداً ممن أسسها لخدمة هذا الدين وإقامة شرعه، فجزاه الله خيراً عن أمته.
أقول لإخواننا في التيار الثائر، احسموا أمركم، وقرروا ماذا تريدون. لا أرى أن لكم قبلاً بمنازعة من يملكون في أيديهم صك الشرعية شرعيتهم، فمازال جل التنظيم معهم، ومازالت كثير من مقدرات التنظيم تحت تصرفهم. إن نجاحكم في إقامة البديل الأفضل هو السبيل الوحيد لإثبات أنكم على صواب.. "وقل اعملوا، فسيرى الله علمكم ورسوله والمؤمنون".
فيما عدا ذلك، إذا كنتم لا ترون أن لديكم القدرة على إيجاد البديل، فإني أنصحكم بالعودة إلى صفوف الجماعة، لكي تساهموا في ترميم بيتها، ولم شعثها، ومداواة جروحها، وتصبروا وتصابروا على إصلاحها من داخلها.