معذرة يا قراء، فالقافية حكمت، كما يقول الشعراء، فجاء عنوان هذه المقال "علماني وعجباني"، على وزن البرنامج الإذاعي القديم "أغاني وعجباني"، وذلك بعد أن اكتشفنا أن خالد الذكر "يوسف العتيبة"، سفير الإمارات العربية المتحدة، في واشنطن، مفكر كبير، وأنه من دعاة العلمانية الكبار، واكتشفنا أن بلاده بجانب بلاد الحرمين الشريفين، ومعهما البحرين والأردن ومصر، تريد حكومات علمانية، بالعكس من قطر، التي تنحاز للدولة الدينية، وأن هذا هو فلسفة الخلاف العميق عمق آبار البترول، بين الإمارات وأخواتها من الرضاعة، وبين الدوحة!
ذكرني حديث يوسف العتيبة (هذا) بواقعة قديمة، و(هذا) تعود إلى الحديث، وليس إلى المتحدث "العتيبة"، الذي لا يجوز معه استخدام (هذا) إنما يجوز فيه (هؤلاء)، بعد أن تبين أنه يفهم في الفلسفة، ويرجع خلاف بلاده ومن معها، مع قطر إلى أنه خلاف فلسفي في الأصل والفصل، كما تبين أنه يعرف العلمانية، وحتماً سيكون في قادم الأيام ضيفاً على وسائل الإعلام ليدلي بدلوه حول العلمانية وجوهرها، ومفهومها وخصائصها، والفارق المحوري بين "العلمانية" بفتح العين، وكسرها!
وقد يجد نفسه، بحكم الدراية والاختصاص، مؤهلاً لتقييم الإجابة النموذجية، لمرسي ابن المعلم الزناتي، في مسرحية "مدرسة المشاغبين" على سؤال مدرسة مادة الفلسفة "عفت عبد الكريم": ما هو المنطق يا مرسي؟.. وقد أجاب بأن المنطق هو أن "واحد صاحبه وقع فلم يحط منطقاً"، ومدى ارتباط هذا المعنى بالفلسفة الوجودية، وقد تبين أن يوسف العتيبة ليس مجرد سفير، ولكنه فيلسوف، ولهذا فقد أرجع الخلاف مع قطر إلى أنه فلسفي وليس دبلوماسياً.
الواقعة القديمة، التي ذكرنا به الفيلسوف يوسف العتيبة، تعود إلى يوم اغتيال صديقنا الدكتور فرج فودة، وكان من دعاة العلمانية ومفكريها!
فقد كانت واقعة الاغتيال في نهاية اليوم، ولم تكن الطبعة الأولى للصحف قد وضعت على المطبعة بعد، وقد اتصل أحد المحررين بقسم الحوادث بجريدة "الأهرام" هاتفياً برئيس القسم في منزله، وكان شخصاً كبيراً في السن، وعلى ما يبدو أنه ليس مهتماً إلا بدائرة عمله، وليس مشغولاً بما هو خارجها.
أخبر المحرر رئيسه بخبر اغتيال فرج فودة، ليعرف طريقة التعاطي معه، وقد تم الانتهاء من عدد الغد من الجريدة، في انتظار طباعته؟.. فسأل رئيس القسم: ومن فرج فودة هذا؟.. ليكون جواب المحرر: "واحد علماني". ولم يسمع رئيسه الأمر جيداً، فعلق "ألماني وقد جاء ليقتل في مصر؟!"..وحوقل، لكن المحرر عاد يؤكد له أنه "علماني" وليس ألماني؟.. ويسأل الرجل: "وماذا يعني علماني"؟!.. ولم يكن أمام المحرر الشاب إلا أن يزيد الأمر توضيحا بأن "علماني يعني كافر"، وهنا كان الرأي بأن يوضع الخبر على عمود في الصفحة الأولى باعتباره حادثة عادية!
وإذ صدرت الصحف بعد قليل، وخبر الاغتيال هو المانشيت الرئيسي لها، فقد جاء رئيس مؤسسة الأهرام "إبراهيم نافع" بنفسه ليلاً ليعالج الأمر في الطبعات التالية، حتى لا تتهم "الأهرام" بالخطأ في تقدير الموقف!
لا أعرف إن كان يوسف العتيبة، لديه وعي بمفهوم العلمانية، وهو يتحدث عن أن بلاده، وحلفاءها، تريد حكومة علمانية في ظرف عشر سنوات؟.. وهو محور خلافها مع قطر، أم أنها كلمة التقطتها مسامعه دون أن يفهم معناها، لاسيما وأن مفهوم العلمانية ليس محدد المعنى، ويبدأ من العلمانية الجزئية والشاملة، ولا ينتهي عند نطقها النطق الصحيح، ويتراوح معناها بأنها ضد خلط الدين بالسياسة، إلى الفصل التام بينهما. وهل توافق المملكة العربية السعودية، هل هذا الكلام الذي قاله العتيبة، وفقهاء الفقه الوهابي يرون في العلمانية ما قاله محرر الحوادث في "الأهرام" بأنها تعني الكفر؟!
أعلم أن فقهاء المملكة لا يمكن أن يعصوا لولي الأمر أمراً، ولو قال كلمة الكفر، ورأينا كيف تقاعسوا عن الدفاع عن المسجد الأقصى باعتباره شأناً فلسطينياً، وبعد نصر الله والفتح، تقدموا بخالص الشكر لخادم الحرمين الشريفين على دوره في فتح أبواب المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وهم في انحيازهم للحاكم، لا ينطلقون من موقف ديني، يلزم بطاعة ولي الأمر وإن أكل مالك وجلد ظهرك، ولكنهم يفعلون هذا خوفاً وطمعاً، فلديهم مصالح مستقرة يحافظون عليها، ولو على حساب العقيدة والدين، ولكن كيف يمكن أن نفهم أن تكون دولة تحرم على النساء إلى الآن قيادة السيارات، أن تصبح دولة علمانية، وهي بالدين تسوق الناس إلى طاعة أولياء الأمور، والانحياز لهم في حروبهم التي لا يراد بها وجه الله ورسوله، إلا إذا كان فهم "هؤلاء العتيبة" وهذه الدول لمفهوم العلمانية على أنها إحدى مشتقات الألمانية، ووعيهم بمعناها يشبه إلى حد كبير إجابة مرسي ابن المعلم الزناتي على سؤال "أبلة عفت" عن المنطق؟!
وهل تتحمل الإمارات، حكومة وأمراء، حكماً علمانيا؟.. إلا إذا كان حدود الفهم للعلمانية أن يفتتح محمد بن زايد معبداً للبوذيين، وكنيسة للمسيحيين، وكفى!
العلمانية، إذا كانت ستبعد الدين عن الحكم، فإنها تستدعي الشعب لكي يقرر مصيره، وما هو الفارق بين حكم رجل الدين، الذي يحكم نيابة عن السماء، وحكم محمد بن زايد، المغتصب للسلطات، والمغيب لإرادة الشعب والحاكم معاً، ولم يبق له من الفرعونية إلا أن يقول يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري؟!
وهل يمكن لنا أن نفهم أن يوسف العتيبة مدرك لما يقول؟ عندما يتحدث عن أن مصر من بين الدول التي تريد نظاماً علمانياً، مع أننا لم نشاهد توظيفاً للدين واستخداماً له في أي عصر مضى، بما في ذلك فترة حكم الرئيس محمد مرسي، بالمقارنة بما عليه الحال الآن!
لقد كان مشهد الانقلاب العسكري كهنوتيا بامتياز، حضر فيه شيخ الأزهر والبابا، ثم كان التأييد للسيسي من قبل رجال الدين باعتباره نبيا مرسلا، ألم يقل شيخ أزهري كبير بأن السيسي هو موسى، أما وزير الداخلية فإنه أخوه هارون، وانطلق قساوسة يصفونه بأنه المسيح الحي؟!
كما أن السيسي نفسه، انطلق ليتدخل في أمور الدين، بحديثه عن الطلاق وما شابه، وادعائه وصلاً بالسماء، ثم أنه لا يحيل أوراقه للشعب كما يحدث في النظم العلمانية، ولكنه يحيل الأمر ليوم القيامة، بالحديث المتكرر عن أن الله سيحاسبه إذا قصر، وهذا ضد طبيعة الحكم العلماني، فما يروج له يندرج تحت الحكم الديني الكهنوتي، عندما يصبح الرئيس حاكماً بأمر الله!
والحكم المصري الذي يستخدم الدين لخدمة أغراضه السياسية يجد دعماً من الإمارات والسعودية، وكتلة الدول التي ذكرها يوسف العتيبة باعتبارها تختلف فلسفيا مع قطر، لأنها تريد حكومات علمانية بخلاف قطر!
ادعاء يوسف العتيبة "هؤلاء"، هو ورقته الأخيرة لاستمالة الغرب، وهو شبيه باتهام أبو ظبي سابقاً لقناة الجزيرة بأنها تعادي السامية، ويريد أن ينتقل بنفسه من مجرد حقيبة أموال متنقلة، إلى كونه مفكرا يتحدث عن العلمانية، فدوره في واشنطن وقد فضحته تقارير صحافية لا علاقة له بالدبلوماسية، وهو من يقدم الرشاوي المالية في مهمة الإفساد بالمنطقة، فقد أراد أن ينتقل إلى طور جديد، يصبح فيه صاحب رأي وصاحب رؤية!
إنه أشبه بلص تم ضبطه متلبساً، فوقف أمام المحكمة يفلسف الأمر ويتحدث عن البعد الميتافيزيقي فيما أقدم عليه!
وعلى ذكر برنامج "أغاني وعجباني"، فهل أكون متجاوزاً لو طلبت من يوسف العتيبة أن يسمعنا أغنية الراحلة: "عايدة الشاعر":
"الطشت قلي يا حلوة يالي قومي استحمي"!.. لما فيها من معاني فلسفية عميقة؟!