من أين ندخل في الحرية وأبواب المظالم كلها مفتوحة والناس في رهق من أمر الخبر اليومي في بلد فقير وبدولة هشة؟
وللسؤال الآن سبب هو الشروع في مناقشة قانون يتعلّق بتجريم أحد أشكال العنف الاجتماعي وأعني العنف بين الزوجين داخل الرابطة الزوجية. قد يبدو الأمر مشروعا بل هو كذلك بلا شك أو تهرب من الموضوع ولكن هل تقنين العلاقة الزوجية بنص صريح ووضع ضوابط ترتيبية مفصلة لها ينهي العنف الزوجي فعليا؟
لقد تمت المصادقة على مجلة حقوق الطفل في تونس من بداية التسعينات ورافقت ذلك دعاية كبيرة عن تطور الجهاز التشريعي في تونس لجهة حماية الطفولة ولكن ذلك لم يترجم في الواقع فآخر الوقائع المسجلة هي أن أحد الآباء المفقرين في جهة مفقرة رمى أولاده الثلاثة في حوض مائي فلاحي وظل ينظر إليهم يغرقون حتى الموت.
وسيصادق على قوانين منع العنف ضد المرأة لكن لا أحد يملك ضمانات إنهاء العنف ضد المرأة أو إنهاء عنف النساء ضد أزواجهن فالعنف متلازمة للحياة الاجتماعية ولكن إلى متى يتأخر وضع هذه القوانين وهل غياب نتائجها يبرر إلغاءها؟
النص وموقعه في التشريع الآن؟
سؤال يضعه معارضو النص في مقدمة الحديث هل يمكن استيراد النصوص القانونية التي وضعت في مجتمعات مختلفة وتطبيقها أم النظر في الواقع المعيش وسن القوانين على هداه؟ وخلفية هذا السؤال هي صراع حول نموذج المجتمع الذي يرام الوصول إليه.
التجارب الاجتماعية عامة وتجارب التحديث الاجتماعي خاصة لم تكن أبدا متطابقة والمسارات التاريخية للتطور فرضت قوانينها والمشرع التونسي الذي يدفع بالنص للمناقشة اليوم يرى التجربة الغربية الجاهزة والتي كانت لها شروطها وانتهت إلى نتائج مكشوفة ولكنه يستنسخ النصوص معتمدا على أن لها صبغة إلزامية دولية باعتبارها موثقة في اتفاقيات دولية تحت إشراف الأمم المتحدة والدستور التونسي الذي وضع في ديباجته الاتفاقيات الدولية كمصدر للتشريع ملزم قانونيا وأخلاقيا بتبني هذه الاتفاقيات النصوص وتطبيقها. لكنه لا يطرح السؤال الواقعي هل هذه القوانين مدخل حقيقي للحرية أم هي رياش مضاف إلى ديكور البيت الديمقراطي التونسي الذي يشقي في الدفاع عن قراره السياسي والاقتصادي ولا يفلح في الخروج من أزماته البنيوية.
في ظاهر الأمر فإن حرمة المرأة داخل الأسرة هي الهدف الحقيقي للنص ولكن في باطنه حرية مطلقة تجعل من بعض أشكال التأديب الأبوي مخالفة للنص وفي التفاصيل تقطن الشياطين.
إن أبا يمنع ابنته من ربط علاقات خارج الزواج يعتبر عنفا ضد المرأة كما أن منع العلاقات المثلية يعتبر اعتداء وتعنيفا لطرفي العلاقة التي يمكن أن تتخذ صبغة زواج باعتبار أن سلامة الجسد الفرد هي هدف تطبيق النص وليس سلامة الأسرة والحفاظ على كيانها.
لقد طرح المتحمسون لهذا النص أيام نقاش الدستور مبدأ حرية اختيار الشريك (وكان المبرر هو منع التزويج بالقوة كما كان يجري في زمن قديم حيث عصمة البنت بيد الولي/الأب) ولم ينتبه مقترحو النص حينها إلى أن المجتمع تطور بشكل كلي فتجاوز هذا الأمر دون نصوص بما يبقي مجالا واحدا لتطبيقه هو حرية اختيار الشريك من مماثل نوعي أي زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة.
والآن يعاد إلى نفس النقطة باسم حماية الحرمة الجسدية للمرأة داخل الزواج (مشروع النص يتحدث عن القرين لا عن الزوجة بما يجعله يشمل الذكور المعتدى عليهم من قبل زوجاتهم). واعتقد أن ليس هناك أزواج يمكن أن يكشفوا هزائمهم الداخلية لذلك فسيكون النص مخصصا للمرأة وأن اتخذ صبغة عامة.(سبق أن تم افتتاح مقر خاص للأزواج المعتدي عليهم من قبل زواجاتهم قبل سنة 2010 بضاحية حلق الوادي ولكنه أغلق بقرار سياسي).
نقاش الأولويات
أي النصوص نقدم الآن للمصادقة والتطبيق؟
توجد معركة في البرلمان التونسي حول الأولوية فحتى اللحظة يتأخر إصدار القانون المتعلق بتطبيق الباب السابع من الدستور (مجلة الجماعات المحلية) كما تتأخر النصوص المنظمة للمحكمة الدستورية ونحن تقريبا في وضع غير دستوري وقائمة النصوص المقترحة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتنظيمه وإصلاح الزراعة ووضع سياسات مائية ذات أفق بعيد المدى كلها مركونة بما يطرح السؤال عن أولوية هذا النص الآن؟
توجد معركة انتخابية قريبة (البلديات) ورغم أن الأحزاب غير جاهزة والترشيحات لا تزال في علم الغيب والبرامج لا تسمع عنها إلا همسا إلا أن الفخ الانتخابي فرض هذا النص فمروجوه مازالوا يستهدفون الحزب الإسلامي ليرفضه في البرلمان وينكشف فيسقط أمام القاعدة الانتخابية النسائية خاصة. والحزب الإسلامي (النهضة) في ورطة فكل عمله قائم على ما فرض في الدستور من مكانة للأسرة فجعلها ركيزة المجتمع وهو يعرف أن الحريات بإطلاق تتعارض مع فكرة الأسرة نفسها.
لذلك تصمت دفاعاته الرسمية لأن معارضة القانون مكلفة انتخابيا. لو عارض القانون سيخسر أصوات نساء كثيرات ولو قبلته سيخسر أصوات رجال كثر. وهنا نفهم لغز تقديم هذا النص الآن. أي أننا تقريبا في نفس الموقع السياسي الانتخابي الذي كنا فيه انتخابات 2011 و 2014 وضع مسألة التحديث الاجتماعي على الطريقة الفرنسية (النص المقترح لا يختلف إلا في القليل عن النصوص الفرنسية) في مواجهة الحزب الإسلامي المحافظ.
لا حرمة المرأة ولا حرمة الأطفال ولا الحياة الزوجية ولا برامج العمل البلدي المنتظر هي أولية من قدم النص للنقاش الآن ولكن إدخال البلد في معركة انتخابية أخرى على نفس قاعدة الاستقطاب الثنائي نهضة ضد حداثة.
ذرائعية لا علاقة لها بالحرية ولا بتقدم المجتمع على طريق التحديث الذاتي نفس المنطق البورقيبي القديم فرض النص طبقا لرؤية ضيقة وانتظار قطف ثمرة معارضته قبل الموافقة عليه وتطبيقه والمرأة دوما هي أقصر قامة للعبور على مطالبها نحو التمكن السياسي وهذه المرة في البلديات. ويمكننا الجزم بعودة نفس الاستقطاب في تشريعية 2019.
هناك طرف لم يخرج من معركته النخبوية القديمة وهو يجر البلد إليها كلما وجد نفسه في مأزق انتخابي أمام الإسلاميين أما القوانين المنتظرة على رفوف البرلمان فيمكنها أن تنتظر سنة أخرى أو أكثر.
والحل؟ أمام ماكينة الاستقطاب؟
لا يمكن الاعتماد على كتلة حزب النهضة في البرلمان لقلب الأولويات مع الثورة وتقديم مطالب الشارع على مطالب النخب. فبعض مكاسب الحزب السياسية متأتية من التظاهر بالغياب أمام تيار الحداثة الذي لا يطرح أولويات الشارع بل أولوياته النخبوية. فينكشف على المدى البعيد كتيار معزول عن واقع الناس. ويتمول من قضايا مغلوطة. لقد خسر هذا التيار الكثير بفعل ذلك وهو مؤهل للمزيد.
لقد علمنا درس علم الاجتماع أنه لا يمكن تغيير المجتمع بأمر قانوني وإنما التغيير ينضج بقانونه الخاص دون ضغط مسبق من المشرع.(مسألة فك الفتاة لعصمتها من وليها عبر تطور تدريجي). ولذلك فإن هذا القانون سيكون مصيره مثل مصير مجلة حقوق الطفل تحسين سمعة البلد الدولية (بلد بتشريعات متطورة) ولكن دون فعل حقيقي في الواقع فالأسرة التونسية ما تزال تشغل أولادها القصر لتدبر مصروفهم وإعانة آبائهم . سيظل المجتمع يسير على هواه تحت ضغط الخبز اليومي للمواطن الذي يعاني موجة الغلاء وموجات الحر والجفاف. لكن الثمرة الآن مرة فعوض أن ندخل في نقاش حقيقي عما سيفعل بنا في البلديات ها نحن نجادل في أحقية اللواط و السحاق.