إيران، في نظر «إسرائيل»، هي العدو الأول. الإرهاب، سواء اسمه «داعش» أو «النصرة»، ليس عدوا. يكفي أن يقاتل هذان التنظيمان الإرهابيان إيران والمقاومة وحلفاءهما حتى يصبحا حليفين لها.
لذلك رفضت حكومة نتنياهو ترتيبات وقف إطلاق النار التي أقرتها روسيا وأمريكا لتشمل مناطق «خفض التصعيد والتوتر» في محافظات جنوب سوريا الثلاث: القنيطرة ودرعا والسويداء. فالهدنة هناك تخدم الحكومة السورية، حليفة إيران والمقاومة، وتهدد على المدى الطويل تنظيمات الإرهاب، حليفة «إسرائيل»، في تلك المناطق وغيرها.. كيف؟ بتجميد الحرب، ولو مؤقتا بفعل الهدنة، في جنوب سوريا، ما يمكّن الجيش السوري من توجيه بعض من قواته العاملة هناك لمقاتلة «داعش» و»النصرة» في مناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية مضاعفة في هذه المرحلة، لا سيما تلك الممتدة على طول الحدود الشرقية لسوريا مع العراق، فضلا عن مناطق دير الزور والرقة والقلمون (على الحدود مع لبنان).
الولايات المتحدة لا تقلّ في عدائها لإيران والمقاومة عن «إسرائيل»، لكنها تختلف عنها في نهج التصدي والعدوان. فـ»إسرائيل» تدعو إلى ضرب إيران وتدمير قدراتها الصناعية والعسكرية قبل أن تنمو إلى درجة يصعب معها مواجهتها في المستقبل؛ لذلك عارضت حكومة نتنياهو، وما زالت، اتفاق واشنطن النووي مع طهران، وهي ما فتئت تدعو إلى إلغائه، أو في الأقل، مضاعفة العقوبات عليها لشل نموها وتعطيل قدراتها.
الولايات المتحدة، في عهد باراك أوباما، استهولت كلفة الحرب على ايران، وأدركت أنها لن تمنعها من صنع أسلحة نووية، فاختارت أهون الشرين: وضع الصناعة النووية الإيرانية تحت الرقابة الدولية، من خلال اتفاق تشارك فيه 5 دول كبرى وترعاه الأمم المتحدة. لم تكتفِ إدارة أوباما بما يوفره الاتفاق النووي من قيود ورقابة مشددة على صناعة إيران النووية، بل قامت بالتعاون مع دول عربية وإسلامية، بتمويل وتسليح وتدريب تنظيمات مسلحة إرهابية و»معتدلة»، لمقاتلة سوريا على مجمل أراضيها، سعيا إلى تفكيكها وتقسيمها. هذه الاستراتيجية تعثرت مذّ باشرتها إدارة أوباما إلى أن أعلنت إدارة ترامب أخيرا «إنهاء برنامج تدريب فصائل في المعارضة السورية وتسليحها كونه غير فعال ويدفع المعارضة السورية إلى التشدد حيال العملية السياسية». يبدو أن «إسرائيل» استشرفت مبكراً مخاطر التراجع العدواني الأمريكي على سوريا فاعتمدت استراتيجية سياسية وعسكرية بديلة قوامها الأسس الآتية:
أولا، مقاربة السعودية وغيرها من الدول العربية «المعتدلة» في سياق مغاير جوهره اعتبار إيران والمقاومة الخطر الأول عليها خصوصاً، وعلى العرب عموماً، والعمل تالياً على مواجهتهم سياسياً واقتصادياً وميدانياً بشتى الوسائل والأدوات.
ثانياً، إبعاد إيران عن سوريا بكل الوسائل المتاحة، وحثّ إدارة ترامب على دعم هذه السياسة، من خلال اتفاقات ميدانية مرحلية مع روسيا تؤمّن نشر قوات دول غير معادية لـِ»إسرائيل»، في عملية مراقبة الأمن والنظام في مناطق «خفض التصعيد والتوتر»، وصولاً إلى إقامة ترتيبات حكم ذاتي فيها.
ثالثاً، تدويم الحرب في سوريا باستئخار هزيمة «داعش» و»النصرة» وحلفائهما، والعمل على دعمهما لمشاغلة سوريا وجيشها على طول حدودها مع العراق ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة.
سوريا وحلفاؤها أدركوا أبعاد استراتيجية «إسرائيل» المرحلية، فردّوا عليها، بالتعاون مع إيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بالخطوات الآتية:
أولا، توسيع دائرة الاشتباك مع «داعش» و»النصرة» وحلفائهما على حدود العراق ولبنان لإزالة وجودهما، ولتأمين إقامة جسر بري يمتد من إيران شرقاً إلى لبنان غرباً عبر العراق وسوريا، بغية توفير الدعم اللوجستي لقوى المقاومة السورية واللبنانية والفلسطينية.
ثانياً، حثّ قوى المقاومة الفلسطينية على اغتنام الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، من أجل تعبئة الجماهير على مدى الوطن المحتل كله وتأجيج الانتفاضة ضد الاحتلال، ما يؤدي إلى مشاغلة «إسرائيل» سياسياً وميدانياً، وعرقلة مخططاتها العدوانية داخل فلسطين المحتلة وعلى حدودها مع سوريا ولبنان.
ثالثاً، ترفيع المساعي الرامية إلى تصليب الوحدة الوطنية داخل فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، والاستعداد للردّ على العدو الصهيوني كجبهة واحدة متراصة، إذا ما حاول الانفراد بأيّ من هذه الساحات الأربع، أو بإحدى قوى المقاومة الناشطة فيها.
إلى ذلك، ثمة اتصالات تجري مع جهات تركية رسمية وشعبية لإجراء تشخيص مشترك للدور العدواني الذي تقوم به الولايات المتحدة على الحدود بين سوريا والعراق، وبين سوريا وتركيا، منفردةً أو بالاشتراك مع تنظيمات كردية موالية لها، كي يصار في ضوء التشخيص المشترك، إلى التفاهم وبالتالي التعاون بين الجانبين العربي والتركي على تعطيل مخطط استغلال أمريكا لبعض الفصائل الكردية في الصراعات الإقليمية، تحت ستار إغرائها بدعم مشروع الدولة الكردية المستقلة. قادة «إسرائيل» يراقبون بقلق ما يواجهه الكيان الصهيوني من ردود فعل عربية متصاعدة، فتراهم يحاولون، وفي مقدمهم رئيس الوزراء نتنياهو، تحويل الانتباه عن أحداث المسجد الأقصى وعن التحقيقات في فضيحة الغواصات الألمانية، ولاسيما بعدما قررت ألمانيا تأجيل توقيع مذكرة التفاهم بشأنها، وذلك بتصعيد المواجهة مع الفلسطينيين على أبواب المسجد الأٌقصى، بغية تأليب يهود «إسرائيل» والعالم وحملهم على دعم الحملة العنصرية والاستيطانية المتمادية.
غير أن قادة رأي إسرائيليين نافذين من أهل الوسط واليسار، أعلنوا أن ما قام ويقوم به نتنياهو في المسجد الأقصى حماقة ستجّر على «إسرائيل» غضبة إسلامية عالمية، لاسيّما وأن قادة الجيش الإسرائيلي و»الشاباك» (الأمن العام ) دعوا إلى إزالة البوابات الإلكترونية من أمام مداخل الأقصى لعدم جدواها وفاعليتها.
القدس العربي