ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصورة الفلسطيني المسيحي الذي صلّى إلى جانب الفلسطينيين المسلمين في جمعة الغضب نصرة للمسجد الأقصى، وعكس شكل انتشارها وتداولها تعطشا لمثل هذه المشاهد في عصر تلعب فيه الصورة والمادة البصريّة من خلال الإعلام دورا تحريضيا مهما. كما ودار نقاش أيضًا على أنه تجري عملية مبالغة في نشر الصورة والتركيز عليها إلى هذا الحد، وأنّها ترسّخ الفكر الديني، وأن مشهد العيش المشترك والوحدة الوطنيّة هذا، طبيعي وعادي ولماذا علينا الاستغراب والاندهاش والتحمّس له كثيرا، وكأن بذلك الاحتفاء انكشافا على وطنية الفلسطينيين المسيحيين بشكل مفاجئ يتناسى أنهم لطالما لعبوا دورا مركزيا في الحركة الوطنية الفلسطينيّة والحركة القوميّة العربيّة.
مع ما يحمله هذا النقد من منطق عند بعض النخب التي تنطلق في تعاملها في هذا الإطار أن هذه المواضيع تأتي ضمن المفهوم ضمنًا في قناعاتهم السياسيّة والثقافيّة وليست بحاجة إلى احتفاء خاص، إلا أننا لا نستطيع تجاهل بعض الجوانب الهامّة التي أحدثتها هذه الصورة وقراءتها ضمن الأحداث الجارية في مدينة القدس ووقفة المقدسيين الشعبيّة ضد محاولات فرض السيادة الإسرائيليّة على المدينة من خلال البوابات الإلكترونيّة، وعلى ذلك خمس ملاحظات:
أولا: تأتي أهمية الصورة في أنّها تضع قضية المسجد الأقصى في إطار وطني جامع لكل الفلسطينيين، حيث يستطيع الفلسطيني المسيحي أيضا أن يكون جزء من عملية الصلاة أمام الحواجز الإسرائيليّة، وعملية الصلاة في القدس المحتلّة لا تقتصر على معان دينيّة فقط، بل لها أبعادها الوطنيّة كممارسة احتجاجيّة على النظام الاستعماري وسياساته وجزء من المقاومة اليوميّة للمقدسيين لتلك السياسات. في الأسبوع الأخير، بات مشهد الصلاة الرافض لدخول الأقصى من البوابات الإلكترونيّة، مشهدًا تحرريًا بامتياز وإعلانا شعبيا للسيادة الفلسطينيّة على المدينة.
ثانيا: غالبا ما يتم التركيز على صورة ما يُطلق عليه "التعايش المسيحي الإسلامي" والوحدة الوطنيّة المشتركة في فلسطين عندما تُنتج من أعلى، أي من خلال لقاءات بين رجال الدين والنشاطات المُنظّمة بشكل مُسبق والمعايدات المتبادلة خلال الأعياد والمؤتمرات الصحفية والبيانات التضامنيّة والخطابات والمواقف التاريخيّة إلخ... لكن هذه الصورة يوم أمس، وبعفويتها، أظهرت لنا الأمور من أسفل ومن خارج المؤسسة، والأهم من ذلك، أن هذا التعايش والوحدة كانا في الشارع الذي يقود المعركة هذه الأيّام.
ثالثا: ذكرتنا هذه الصورة بميادين الربيع العربي عام 2011، عندما كانت تظهر صور شبيهة من مصر وسورية وتحمل نفس الرسالة. كلنا نعرف ما آلت إليه الثورات، والانزلاقات نحو الطائفيّة التي تمر بها المنطقة العربيّة، فالمجتمعات لا تولد بالفطرة لديها نزعة طائفيّة أو تماسك وطني، هذه أمور تُصنع وتُنتج ضمن ظروف سياسيّة واجتماعيّة. السؤال هو ماذا نصنع وماذا ننتج في الحراك الجاري في القدس؟ في ظل محاولات دائمة من قبل المؤسسة الإسرائيليّة لتقسيمنا واللعب على الوتر الطائفي، مع وجود قوى تحمل خطابا دينيا وممارسات راديكاليّة طائفيّة.
رابعا: بعيدا عن التفاعل الكبير في الفضاء الافتراضي مع الصورة، كان يكفي رؤية ردة فعل الناس المعتصمين في القدس عند لحظة رؤيتهم للصورة وتناقلهم للخبر وتفاعلهم معه، وكيف تشد من عزيمة المعتصمين أمام حواجز الاحتلال الإسرائيليّة والشباب الذين يخوضون المواجهات مع الشرطة الإسرائيليّة، في مشهد أبلغ من كل ما كُتب من إعجابات وإشادات في "فيسبوك".
خامسا: هل يستطيع الشارع الفلسطيني أن يُقدّم أنموذجا متقدما في الوحدة الوطنيّة والتعايش والتسامح ودرء الطائفيّة إلى جانب ما يُقدّمه الشارع من مواجهة باسلة ضد النظام الاستعماري، من خلال تحوّل هذه المبادرة الفرديّة العفوية يوم أمس إلى ظاهرة دائمة حيث تُصبح الصلوات المواجهة للاحتلال إلى صلوات إسلاميّة ومسيحيّة مشتركة؟
هناك فرصة تاريخيّة للعمل نحو ذلك لتصبح هذه الصورة أمرا طبيعيا نراها كل يوم جمعة.