الانقلاب الابيض الذي حدث في السعودية هذا الاسبوع سبقته في الاعوام الثلاثة الاخيرة انقلابات عديدة على ثوابت في المنطقة، ساهمت جميعا في تغيير أفقها السياسي، وجعلت من الصعب التنبؤ بما يخبئه مستقبلها. فعندما اعلن عن «تعيين» الامير محمد بن سلمان آل سعود، وليا للعهد في المملكة العربية السعودية، بدلا من ابن عمه، الامير محمد بن نايف، كان ذلك خارجا عن المألوف في نظام الاستخلاف الذي عمل به في المملكة ستين عاما منذ وفاة الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود في 1957.
في البداية يمثل هذا التعيين انقلابا على عدد من البروتوكولات المرتبطة بالاستخلاف. فهو اولا تم بقرار شخصي من محمد بن سلمان الذي صعد فجأة إلى الواجهة بعد وفاة عمه الملك عبد الله، وتولي والده، الامير سلمان عرش الملك السعودي. وثانيا ان التعيين لم يأت ليسد فراغا في منصب ولاية العهد، بل ليطيح بولي العهد الذي كان «مجلس البيعة» الرسمي قد أقر له التعيين قبل ثلاثة اعوام. ثالثا: ان ولي العهد المخلوع، محمد بن نايف، لم يتهم بارتكاب اخطاء او مخالفات تفقده صلاحية البقاء في المنصب، وليس معلوما بعد ما إذا كان على علم بقرار خلعه. رابعا: ان ما رشح عن طريقة «مبايعته» ولي العهد الجديد الذي هو بمثابة ابنه من حيث العمر (اصغر منه باكثر من 25 عاما)، فيؤكد ان بن نايف كان مكرها على ما قام به، وان ذلك حدث على استعجال، وان هناك تعمدا في اظهار ذلك الاكراه بإلباسه العباءة وهو يسير نحو ابن عمه، كما ان المبالغة في اظهار الاحترام من قبل ولي العهد الجديد بتقبيل يدي المخلوع ورجليه، تؤكد تمثيلا غير مسبوق وغير محبوك. هذه الانقلابات على بروتوكولات الاستخلاف المعمول بها في المملكة العربية السعودية ظاهرة تستحق التدبر من جهة، وان تكون مدخلا للتعرف على مسار العلاقات داخل البيت السعودي من جهة اخرى. كما لم تخل مراسم «البيعة» من اشكالات وتوتر عكستها كاميرات الاعلام.
سبقت دراما الانقلاب الابيض في دهاليز الحكم السعودي اعوام ثلاثة حفلت بانقلابات اخرى على صعدان ثلاثة: اولها حرب اليمن، ثانيها العلاقات مع «اسرائيل» وثالثها: التعامل مع مجلس التعاون الخليجي. واذا تم استيعاب ديناميكية السياسة السعودية الجديدة في هذه الجوانب الثلاثة فقد يمكن استشراف نمط الحكم المقبل في الجزيرة العربية. وتعتبر الحرب التي تقودها المملكة على اليمن خروجا على المألوف عن السياسة السعودية. فهي حرب جاءت بقرار مستعجل بدون قراءة حقيقية لطبيعة ذلك النزاع العسكري او افقه او أهدافه او مدى خطره على الامن والاستقرار في الجزيرة العربية. ولذلك مر اكثر من عامين على تلك الحرب ولم تحقق اهدافا تذكر، بينما تصاعدت الخسائر البشرية على الجانبين، واصبحت السعودية وحلفاؤها متهمين بارتكاب جرائم حرب وتجويع وانتهاك لمواثيق الحرب الدولية. وفي الوقت الذي تحاصر فيه اليمن برا وبحرا وجوا، ويمنع عنها الغذاء والدواء، فان التحالف العربي اصبح هو الآخر محاصرا سياسيا واخلاقيا وعسكريا. وحين تؤكد الارقام ان اكثر من 15 الفا من اليمنيين قد قتلوا، وان اكثر من نصفهم من المدنيين، وان عدد الضحايا الاطفال تجاوز 5000، فان ذلك حصار اخلاقي لا تستطيع المملكة تبريره، كما انه يحاصر داعميها في لندن وواشنطن. صحيح ان هناك رئيسا أمريكيا لا يعبأ بالقيم الاخلاقية والانسانية، ولكن بريطانيا تجد نفسها في ورطة كبيرة خصوصا في ضوء تراجع حظوظ حزب المحافظين الحاكم خصوصا رئيسة الوزراء التي تراجعت شعبيتها حتى اصبحت، وفق آخر استطلاعات الرأي، أقل من شعبية جيريمي كوربين. السعودية انزعجت من تلكؤ قطر في المشاركة بحرب اليمن، وكلما تصاعدت خسائرها العسكرية ازدادت حنقا وميلا للانتقام. وتعتبر الحرب على اليمن «انقلابا» في السياسة السعودية التي سعت لتفادي التورط المباشر في الحروب مع الجيران، برغم الخلافات الحدودية والسياسية.
اما الانقلاب الثالث الذي يحمل مخاطر جسيمة، ليس على السعودية فحسب، بل على الاقليم كله فهو استهداف قطر بشكل مفاجئ وشامل وشرس. فليس من عادة السعودية الدخول في مماحكات حادة من هذا النوع، وان كانت هناك سوابق لتوتر العلاقات مع سلطنة عمان (كما حدث عندما اعتقلت السعودية في التسعينيات عددا من الحجاج العمانيين وهددت السلطنة بالانسحاب من مجلس التعاون إذا لم يطلق سراحهم)، ثم جددت تهديدها بالانسحاب عندما سعت السعودية لفرض مشروع «الاتحاد الخليجي». ففي عام 2013 قال وزير الدولة للشؤون الخارجية العماني، يوسف بن علوي على هامش منتدى للأمن الإقليمي في المنامة: «نحن ضد الاتحاد لكننا لن نمنعه، وفي حال قررت الدول الخمس الأخرى الأعضاء في المجلس إقامة هذا الاتحاد فسننسحب ببساطة من مجلس التعاون الخليجي».
وفي 2014 سحبت السعودية والامارات والبحرين سفراءها من الدوحة احتجاجا على وجود الشيخ يوسف القرضاوي على الاراضي القطرية. وحدثت مشاحنات سابقة بين السعودية والامارات خصوصا بعد افتتاح السعودية حقل الشيبة في 2005 والاختلاف على الممر الذي يوصل الاراضي السعودية بخور العديد بين قطر والامارات. ولكن في كل الحالات المذكورة كانت السعودية تسعى للتوصل إلى حلول بدون فرض سياسة كسر العظم على الطرف الآخر. ولكن هذه المرة يعتبر الموقف السعودي خارجا عن المألوف، ويمكن اعتباره «انقلابا» على ذلك المألوف. وقبل أيام فحسب، قدمت السعودية، عبر الوسيط الكويتي، ثلاثة عشر شرطا لقطر لرفع الحصار عن شعبها والتصالح مع حكومتها. ويعتبر تقديم هذه الشروط علنا خارج الاعراف والاطر الدبلوماسية مفاجأة خطيرة. فهذه الشروط تعني ببساطة، رضوخ قطر بشكل كامل للاملاءات السعودية، وهو امر لا يمكن لدولة مستقلة ذات سيادة القبول به. وبعض هذه الشروط تدخل في السيادة القطرية بهدف تركيع الدوحة للرياض. فبعد الهيمنة المطلقة على القرار البحريني، تسعى السعودية لتوسيع دائرة نفوذها لقطر والكويت والامارات. هذا الانقلاب على ما كان يعتبر، ضمن ديباجة تأسيس مجلس التعاون الخليجي، من ثوابت العلاقات بين دول المجلس، يهدف لاحداث تغيير كبير على طبيعة تلك العلاقات، بحيث يتم التخلي عن السيادة التي تتمع بها الدول الصغيرة لـ «الشقيقة الكبرى»، كما فعلت البحرين. والقبول بذلك خطوة على طريق تذليل الصعوبات امام مشروع «الاتحاد الخليجي» الذي جمدته السعودية ولم تتخل عنه.
هذه الانقلابات الثلاثة تنطوي على آثار خطيرة للمنطقة. فتسهيل مهمة السعودية في اليمن يعني رفع الحصانة عن بقية دول مجلس التعاون واخضاعها بشكل كامل للهيمنة السعودية. ولذلك رفضت سلطنة عمان وقطر والكويت المشاركة بفاعلية في تلك الحرب التي وصلت إلى طريق مسدود برغم الدعم اللوجستي والمعلوماتي الذي تقدمه بريطانيا وأمريكا. كما ان استهداف قطر سيؤدي إلى تصدع مجلس التعاون الخليجي. وقد يكون ذلك مطلبا ضمن الرؤية السعودية التي طرحها محمد بن سلمان قبل شهور ضمن خطته المعروفة بـ «رؤية السعودية 2030». فبرغم انها مشروع للاصلاح الاقتصادي بالمملكة والتركيز على تعدد مصادر الدخل، الا انها مشروع يتضمن تصدي السعودية لقيادة العالم العربي كله وعدم حصر دورها القيادي بمجلس التعاون. فاذا استطاعت الرياض فرض شروطها على قطر فسيكون ذلك انجازا كبيرا يعوض خسارتها المعنوية والمادية في الحرب التي تقودها على اليمن.
وفي مقال نشر بصحيفة «واشنطن بوست» في 22 يونيو، قال مشعل بن حمد آل ثاني، سفير قطر لدى الولايات المتحدة الأمريكية ان الهدف من الحصار «معاقبة قطر على استقلالها والانتقام منا لدعم التطلعات الحقيقية للشعوب ضد الطواغيت والديكتاتوريين». وكان واضحا ان السعودية فرضت العقوبات والحصار على قطر قبل ان تطرح عليها قضايا الخلاف معها، الامر الذي ازعج الأمريكيين. وفي 20 حزيران/يونيو قالت المتحدثة باسم الوزارة هيذر ناورت «في هذه اللحظة ليس أمامنا سوى سؤال واحد بسيط: هل كانت التحركات فعلا بشأن مخاوفهم إزاء دعم قطر المزعوم للإرهاب أم هي بشأن شكاوى تعتمل منذ فترة طويلة بين دول مجلس التعاون الخليجي». وهذا التصريح يلخص جوهر المشكلة وانها ترتبط برغبة غير معلنة من قبل السعودية في فرض الهيمنة المطلقة على بقية دول المجلس. وهنا تبدو الوقائع المعنلة مختلفة عن الدوافع المبطنة، الامر الذي يساهم كثيرا في تعقيد الازمة بسبب غياب عناصر النزاهة والشفافية والموضوعية بشأنها.
(القدس العربي)