الغريق يتعلق في "قشاية"، وقد فعلها عبد الفتاح السيسي، باستدعائه الجيش في معركة "التراب الوطني، دون خجل أو وجل، بما يمثله هذا من إساءة لـ "بيت الوطنية المصرية" كما أطلق عليه البعض، ودون تشكيك من الجميع في هذه المقولة، فالمستقر في قلوب المصريين أن الجيش "عمود الخيمة"، وهو الأمر الذي سهل من مهمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اختطاف الثورة، وركبوها، وفي تمكينه من الانقلاب عليها في وقت لاحق!
السيسي، لأنه قرر التفريط في التراب الوطني، فقد أخذ الجيش معه رهينة، مورطا إياه في هذه الجريمة، وهو أمر عُرف منه بالضرورة، فهو في معاركه يحب أن يورط معه الآخرين، فعندما ارتكب مذبحة رابعة، كان حريصا أن يبلغ الجهات الغربية بأن الشرطة هى التي ورطته في ذلك، فلم يكن لديها تعليمات في أن تسرف في القتل، لدرجة أن أسرته أصابها الذعر عندما شاهدت الدماء. كما ورط الجيش في انقلابه وجرائمه، وأخذ أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومعهم وزير الداخلية رهائن في معركته، فإذا سقط الانقلاب فإن رقابهم جميعا سيلتف حولها حبل المشنقة، إذن فليخوضوا الحرب معه على قاعدة: "قاتل أو مقتول"!
وقد شاهدنا النواب في برلمانه المؤيدين لجريمة التفريط في جزيرتي "تيران وصنافير"، وهم يعيدون ويزيدون في مرافعاتهم عن الحق السعودي في الجزيرتين، بأن الجيش يوافق على التنازل باعتبار أن "تيران وصنافير" مملوكتان للمملكة العربية السعودية، وهذا يتأتى من صمته، وهناك من تعامل على أن صمت الجيش، هو الدليل القاطع على أنه لم يحدث تفريط في الأرض المصرية، والبعض نظر إلى أن الجيش هو من قرر إعادة الحق لأصحابه، باعتبار أن عبد الفتاح السيسي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وعلى أساس أن نقل السيادة على الجزيرتين للعربية السعودية تم باسم الجيش!
كل النواب تقريبا الذين وقفوا يدافعون عن حق السعودية في "تيران وصنافير"، رددوا هذه الاسطوانة، وبشكل مثل إسرافا في الاستدعاء، وهو ما يعد تعريضا بالجيش المصري، وإساءة له، ويمثل ابتذالا لاسم الجيش المصري، كان ينبغي أن يؤاخذ من ربطوا بينه وما جرى، لولا أن الخلط تم مع سبق الإصرار والترصد، بين شخص السيسي والجيش، فتم استباحة اسم الجيش في جريمة الخيانة العظمى التي أقدم عليها كل من شارك في عملية التفريط في التراب الوطني، للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي!
وفي الحقيقة، فإن استدعاء الجيش لم يتم في جلسة برلمان الانقلاب، ولكنه كان منذ اليوم الأول لاندفاع عبد الفتاح السيسي لارتكاب هذه الجريمة، عندما قال إنه سأل المخابرات العامة، والحربية، والجيش، إن كانت لديهم مستندات تثبت ملكية مصر للجزيرتين فنفوا جميعا.
السيسي يكذب، والدليل على هذا أن الدكتورة "هايدي فاروق" الخبيرة في شؤون الخرائط والحدود، قالت أمام البرلمان إنه تم تكليفها من قبل وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي، ومدير المخابرات العامة عمرو سليمان لبحث ملكية تيران وصنافير، وانتهت بعد بحث من ملكية مصر للجزيرتين، وأكدت أن هناك (75) وثيقة أمريكية تؤكد هذا الحق، وقد سلمت هذا كله للمخابرات العامة، وعندما يقول السيسي أنه سأل إن كان في حوزة الجهاز ما يشير إلى ملكية مصر للجزيرتين فكان الجواب نفيا، فإنه يمارس الكذب البواح، والغريب أنه لم يكن سؤاله إن كان لدى الجهاز ما يفيد ملكية السعودية لها وليس العكس!
إن عبد الفتاح السيسي في ورطة، وقد قرر – كعادته – أن يورط الجيش معه فكان هذا الحديث الممل عن دور الجيش، سواء بموافقته بالصمت، أو أنه قام بالفعل بذلك باعتبار أن السيسي - بحكم موقعه السابق - هو من يمثل الجيش وينوب عنه!
سكوت الجيش، فسر على أنه "علامة الرضا"، ومن ينظرون للأمر من هذه الزاوية يقولون إن حماية الأرض والدفاع عنها واجبه ووظيفته الرسمية، وهذا صحيح، لكن هذه المرة، ولعلها المرة الأولى في التاريخ المصري، التي يكون الاعتداء فيها على التراب المصري ليس من الخارج ولكن من الداخل، هذا فضلا عن أن الدفاع عن التراب الوطني، قرار سياسي وليس عسكريا؛ فالجيوش لا تخوض غمار الحروب من تلقاء نفسها، ولكن يلزمها قرار من القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس الدولة، وعندما وقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية بعد هزيمة سنة 1967، ظلت الآمال معقودة في أن يتخذ رئيس الدولة قرار الحرب، وهنا يكون دور الجندي المنضبط هو تنفيذ هذا القرار، وعندما صدرت الأوامر من القائد السياسي بوقف الحرب، قال الجيش سمعا وطاعة!
اللافت أن هناك من تحدثوا عن قدرة الجيش على القيام بانقلاب عسكري، إلا أنه لم ينقلب، فالمعنى لدى البعض أنه فرط في التراب الوطني، ولدى "فرقة السيسي" فالمعنى أن عدم انقلابه أكبر دليل على أن الجزيرتين سعوديتان، فمن يملك أن يزايد على الجيش ووطنيته؟
وهو كلام غريب حقا، فالجيش المصري ليس جيشا انقلابيا، فلم ينقلب سوى مرة واحدة في أكثر من ستين عاما، ومنذ انقلاب يوليو 1952 ، دعك مما جرى في 3 يوليو 2013، فالمقطوع به أن ما حدث كان انقلابا مخابراتيا وليس انقلاب جيش، والدليل على ذلك، أن من سيطر على المشهد بعد الانقلاب هو شخص عبد الفتاح السيسي، وفي انقلاب سنة 1952، فقد حكم مجلس قيادة الثورة، وهم الصفوة المختارة من الضباط الذين قاموا بالانقلاب، صحيح أن هذا المجلس تم حله بعد عدة سنوات، ليحكم عبد الناصر منفردا، لكن تجدر الإشارة إلى أن كل عضو في مجلس قيادة الثورة، كان يعتبر نفسه في الفترة الأولى شريكا في الحكم، في حين أن السيسي حكم وحده، وقام مبكرا بإحداث تغييرات داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فأحال بعض أعضائه للتقاعد، فلم يتبرم أحدهم أو يعترض؛ لأنه يعلم أنه "عبد المأمور"، وليس شريكا في انقلاب.
ومهما يكن فالجيش ليس صاحب قرار تقرير المصير في السلطة والحكم، وقد قرر السادات الحرب، فخاضها الجيش، ثم ذهب بعيدا بالسفر إلى الكنيست، وإبرام اتفاقية كامب ديفيد مع "العدو الصهيوني"، ولم يعترض الجيش على ذلك، ولم ير في هذا تغييرا في عقيدته، والحال كذلك، فإن الطلب من الجيش أن ينقلب هو عبث، وتبرير سكوته على التفريط في التراب الوطني على أنه "علامة الرضا"، هو ضد طبائع الأشياء.
بيد أن عبد الفتاح السيسي قدم خدمة جليلة لفكرة "الدولة المدنية" باستباحة الجيش لتبرير جريمته، وفي الحقيقة أن البداية لم تكن بقرار التفريط، فقد سبق له استخدام الجيش في الصدام مع الجماهير وحماية الانقلاب العسكري، وقد كانت مكانة الجيش يستمدها طوال تاريخه من أنه ليس طرفا في المعادلة السياسية، وهذه المكانة هى التي مكنت قياداته من "ركوب الثورة"، ومثلت غواية لكل القوى الثورية، فلم ينظروا للمجلس العسكري على أنه الامتداد لحكم مبارك، ولكنهم نظروا إليه على أنه الجيش المصري، ومن هنا كانت هزيمة الثورة. ولا شك أن هذه المكانة المتوارثة للجيش في القلوب، كانت تعد معضلة في طريق الدولة المدنية، وفي طريق التحول الديمقراطي!
لكن السيسي مشكورا غير مأجور بدد هذا كله، فلم يعد أحد يشترط في الحاكم أن يكون بخلفية عسكرية، ولم تعد هذه الخلفية هي سمات "الدكر"، ولم يعد شرط "الدكر" متوفرا في السادة الضباط، ولم يعد العسكريون هم من يحافظون على تراب الأوطان، فمن فشل في تبديد التراب الوطني في حروبه، قام بالتفريط فيه في أوقات السلام، وفي الحالتين فإن "العدو" هو المستفيد الذي مكنه العسكر من تحقيق كل إنجازاته بالحرب وبالسلام.
شكرا عبد الفتاح السيسي!