استيقظت المنطقة العربية صبيحة 5 يونيو/ حزيران 1967 على هزيمة عسكرية مذلة لكل دول المنطقة، وهي الهزيمة التي نقلت وجه الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ولا تزال توابعها إلى اليوم، وأتت ذكرى نصف قرن بالأمس متسقة مع أجواء الهزيمة، إذ حدثت هزيمة سياسية أقبح من الأولى لكونها بيد أطراف المنطقة التي تجمع بينهم قواسم أكثر مما يستدعي تفرقتهم، وهو أليق صباح بذكرى الهزيمة، وأنسب موعد لإعلان إجراءات الهزيمة السياسية كان ما يتناسب مع توقيت يوم لم ينتهِ في الولايات المتحدة ولم يبدأ بعد في الدول العربية المعنية ولا دواوين حكمها، في إشارة واضحة لجهة الرسالة والاسترضاء، كما لاحظ بعض المتابعين للأزمة.
هناك ملاحظات أولية على الأزمة العربية - العربية يمكن إجمالها في عدة نقاط:
• هذه ليست الخلافات الأولى بين الدول الخليجية الثلاث وبين قطر، فقد قامت السعودية والبحرين والإمارات بسحب سفرائهم من قطر في مارس/ آذار 2014 وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام عاد السفراء بعد تهدئة الأزمة، لكن تجدر الإشارة إلى ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية في خبر قطع العلاقات، حيث نقلت عن مصدر مسؤول ما مضمونه أن جذور الخلافات تعود إلى عام 1995، فيما يبدو أنه إشارة من المملكة إلى الانقلاب الهادئ الذي قام به الأمير حمد بن خليفة على والده، والملفت أن والده تنقّل بين نفس الدول الثلاث عقب الانقلاب عليه في إشارة واضحة لرفضهم ما جرى وقتها.
• يرجّح البعض أن تلك الخطوات جرى الترتيب لها بالإمارات ثم جرى تسويقها فتبنتها المملكة، وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تتحرك فيها السعودية متأخرة عن دولة خليجية أخرى، كما أنه لم يعد سرا مدى التقارب بين ولي عهد أبي ظبي وولي ولي العهد السعودي الطامح في وراثة أبيه، كما أن ذلك مؤشر على تنامي النفوذ الإماراتي بالمنطقة والرضا الأمريكي عنه، بعدما قدمت نفسها كحليف داعم ومنفذ جيد للرغبات الأمريكية.
• تركزت الاتهامات ضد قطر في رعاية الإرهاب والطائفية "الإخوان وداعش والقاعدة" ودعم الشيعة الموالين لإيران، ودعم السعي لانقلاب في البحرين، والملفت أن هذه الدول لم تقطع علاقاتها مع إيران التي يتهمون قطر بدعم ميليشيا تابعة لها، وفي تقرير للمركز العربي والأبحاث ودراسة السياسيات ذكر أن: "الإحصاءات الرسمية تفيد بأن حجم التبادل التجاري بين إيران والإمارات بلغ 15.7 مليار دولار في عام 2013، ونحو 17.8 مليارًا في عام 2012، و23 مليارًا في عام 2011، و20 مليارًا في عام 2010. لكن عام 2014 شهد قفزةً كبيرةً في حجم التبادل التجاري بين البلدين، وأصبحت الإمارات أكبر الدول المصدّرة لإيران؛ إذ شكلت ما نسبته 27% من مجموع الواردات الإيرانية، وبلغ حجم التبادلات 41.620 مليار دولار (حجم الصادرات 19.639 مليارًا وحجم الواردات 21.981 مليارًا)"، وعن الاتهام بالإرهاب فدائما ما تتوجه أصابع الاتهام إلى السعودية بأنه سبب نشره بالفكر الوهابي السائد بها والذي غذى كل حركات التطرف.
• الإجراءات التي اتخذت ضد قطر كانت في غاية التطرف الذي بلغ منع وسائل النقل القطرية من المرور على الحدود الجوية أو البرية أو البحرية لتلك الدول مما سيترتب عليه زيادة في تكاليف النقل، فضلا عن مطالبة المواطنين القطريين بمغادرة تلك البلاد وعدم سفر مواطنيهم إليها، "لا تنس أن السعودية لم تمنع لواءا سابقا بمخابراتها من الذهاب لإسرائيل مع وفد أكاديمي لكنها ستمنع مواطنيها من الذهاب لجارتها، كما لا توجد ممانعة من ظهور مدير مركز دراسات على شاشات إسرائيلية بالأمس لكن ليس مقبولا ظهوره على شاشة الجزيرة".
• إننا لم نشهد مثل تلك المواقف أمام أي عدوان إسرائيلي في فلسطين المحتلة أو أثناء العدوان الأمريكي في العراق، وقد بدا الاحتفاء الإسرائيلي بتصريحات ليبرمان التي قال فيها: "حتى الدول العربية بدأت تدرك أن الخطر على المنطقة ليس إسرائيل بل الإرهاب، إنها فرصة للتعاون".
• الرد القطري -حتى الآن- بدا هادئا، فقد طمأنت المقيمين والزائرين بعدم تأثرهم بتلك الإجراءات، كما ألغى أميرها كلمة كان من المفترض أن يلقيها تعليقا على الأزمة لإتاحة الفرصة لوساطة كويتية، والإحجام الكويتي - العماني عن الدخول في الأزمة يسمح لهما بقيام ذلك الدور، وقد استقبل أمير الكويت مستشار الملك سلمان بالأمس وسيتوجه بنفسه إلى المملكة اليوم، كما استقبل أمير قطر وزير الخارجية العماني بالأمس، في محاولات لرأب الصدع مبكرا، لكن الملفت في بيان الخارجية القطرية تجاهله الكامل لمصر، وكأنه لا تأثير ولا أهمية لها، وأصبح مؤسفا للمصريين أن يروا بلادهم بهذه التبعية، إذ إن حاكمهم لم يقطع العلاقات من قبل مع قطر إلا بعد التحرك الخليجي، ولم يقطعها حتى الآن مع تركيا رغم توافر نفس الأسباب المزعومة لقطع العلاقات مع قطر.
هذه الأزمة لا يمكن حصر أسبابها في تواجد حركة حماس بقطر ولا الإخوان وتسويق الخطاب الإعلامي لهم، إذ يتواجد الإعلام الإخواني بتركيا لا قطر، صحيح أن وجود الإخوان يمثل إحدى عوامل الأزمة لكن العامل الأهم هو حصر الدور الإقليمي لقطر بعدما أصبحت دولة شديدة الثراء منذ تولي حمد بن خليفة الحكم، وإطلاقه لقناة الجزيرة أواخر 1996 التي جعلت لقطر ثقلا إقليميا مهما، كما أن قطر أصبحت -عن طريق الجزيرة- طرفا فاعلا في الأزمة الفلسطينية بخلاف تغطياتها للعدوان الأمريكي على العراق والإسرائيلي على لبنان بما يتوافق مع الهوى العربي والإسلامي، ودعمت ثورات الربيع العربي، فتربعت على قمة القنوات العربية وأصبح لقطر مكانة كبيرة، ويبدو أن هناك ما يتم ترتيبه في إطار ما يسمى بصفقة القرن ولا يُحتاج معه لسماع صوت معارض خاصة لو كان إعلاميا، وحصر الدور القطري هو العامل الأساسي في حملة التركيع هذه، وكل شيء بعد ذلك على هامشه.
لم تبق أمام قطر إلا ثلاث حالات: الأولى أن تستجيب لتلك المطالب إما بوساطة عربية، ما يعني ضربة قاصمة لعشرات الآلاف من الذين آوتهم قطر وهم مطاردون في بلادهم لآرائهم السياسية، أو بوساطة أمريكية وهي تعني تحسنا قليلا في الشروط الإماراتية - السعودية، وربما تكون خطوة الانتقال من مرحلة المشاركة في الدور الإقليمي إلى الدولة التابعة تحتاج لتغيير في رأس السلطة القطرية إما بصورة ناعمة أو خشنة.
والثانية أن تتغير خريطة التحالفات القطرية - الخليجية، لكن من غير المرجح أن يكون التحالف مع إيران وروسيا، لأن ذلك يعني خسارة كاملة لها لو وُضِعت في خندق واحد معهما، ولكن ربما تستفيد من بعض الانفتاح عليهما مع وجود تصريحات إيرانية مغازلة كتعويض الاحتياجات الغذائية التي ستتوقف من الدول المقاطعة، وستسعى قطر لتعزيز التعاون مع تركيا التي اتصل رئيسها بالملك سلمان للتهدئة، كما ستقوم بفتح خط أكثر سخونة مع الولايات المتحدة باعتبارها الدولة التي تفتح قناة خلفية مع الإسلاميين وهو دور مطلوب دائما، خاصة مع التصريحات الإيجابية عن الدور القطري بالمنطقة وعدم وجود خطط لنقل القاعدة الأمريكية هناك.
الحالة الأخيرة أن تحاول قطر التماسك لحين هدوء الموجة مع استخدام أسلحتها الرئيسية "قناة الجزيرة، وثروة الغاز الطبيعي" وهما أدوات المناورة لقطر حتى تجتاز الأزمة، ويمكنها القيام بدور كبير بهما لو أحسنت استخدامهما.
المؤلم في هذه الحملة ما أبدته من آثار انهيار العواصم العربية الكبرى "بغداد والقاهرة ودمشق"، وبدا فارق التحضر والتبدّي، فبغداد ودمشق غرقتا في بحر الاقتتال الداخلي عقب الاحتلال الأمريكي لإحداهما والمطالبة بالحرية عند الأخرى، والقاهرة غرقت في بحر الاستبداد وتردي قدرات حاكمها، ودعمت الإمارات والسعودية ذلك فأصبحت تابعة لهما، وأصبحت المنطقة تدار من قِبل قوم لا يعرفون من الزعامة سوى التبعية للحماية العسكرية الأمريكية، دون اعتبار لرغبات الشعوب، أو إدراك لسنة التاريخ فيمن سلك مسلكهم.