شهدنا في السنوات الأخيرة طائرات فرنسا وبريطانيا تدك مرافق الدولة الليبية وتقتل زعيمها، كما قامت القوات الأمريكية بتدمير مؤسسات العراق وشنقت رئيسه بعد محاكمة هزلية أشرفت عليها، وسلمت البلدين لمن كانت تظن أنهما يضمنان تشتيت البلدين.. ولاتزال تهدد مواقع أخرى في بلاد العرب والمسلمين.
ورغم هذا، لابد من القول إن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا قد فقدت ذلك الطراز المميز من القيادة التاريخية، الذي كان مسكونا بروح النهضة الأمريكية الجبارة، متحركا على طريقة الفارس الأسطوري، وبثقافة التسيُّد والهيمنة على العالم، ويدفع في سبيل ذلك بكل خيله ورجله وإمكاناته، وانتهى الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة إلى تقديم أردأ النماذج على المستوى السياسي والثقافي، التي ألحقت بالولايات المتحدة خسائر فادحة على الصعيد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي؛ فمن ترومان وكيندي وآيزنهاور إلى العربيد جورج بوش الابن والمخبول ترامب.. إنها رحلة نحو الانهيار.
أما أوروبا الاستعمارية، فلقد تلقت في النصف الثاني من القرن العشرين ضربات عميقة في القلب منها وفي وجدانها باندلاع حركات التحرير في إفريقيا وآسيا؛ وعلى رأسها الثورة الجزائرية التي فككت الاستعمار الغربي. ورغم محاولاتها امتصاص الصدمة، إلا أن الشيخوخة سعت إلى مفاصلها وها هي تتكشف عن عيوب استراتيجية في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، ورغم مكابرتها في التزامها بكثير من إجراءات الخدمات في مرافقها العامة، إلا أن الخور يضرب عمقها، إلى درجة تلقيها الإهانة من أردوغان بلا ردة فعل.
أوروبا تعلن دوما أن مشكلاتها الاقتصادية لا يمكن حلها إلا على مسرح شمال إفريقيا، ومن هنا تتحرك فرنسا وبريطانيا وإيطاليا في ليبيا وسواها تنهب الذهب والبترول والثروات العديدة وتفتح لمنتجاتها أسواقا ضخمة في أماكن التصارع والتناحر، التي تشرف هي على تغذيته وتوجيهه واستمراره.
لم تصل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الاستعمارية إلى هذه المرحلة، إلا بعد عقود من الحروب الواسعة للسيطرة على المعابر الدولية والمواقع الاستراتيجية ومواقع الثروات الأساسية والأسواق الواسعة، ووضعت لتحركها إطارا من الشرعية الدولية، وأنشأت كيانات اقتصادية ومؤسسات سياسية كمنظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي والعولمة والاتحاد الأوروبي، وسوى ذلك من عناوين كلها تتهاوى اليوم على وقع خسائر اقتصادية تكبدها النظام الدولي في العراق وأفغانستان، ولايزال ينزف في أكثر من مكان. وما يجري على مستوى مسرح الاتحاد الأوروبي يعني ببساطة أن أوروبا ذاهبة إلى الشيخوخة المستبّدة، وما انهيار اليونان وإمكانية انهيار إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وخروج بريطانيا من الاتحاد، إلا دليلٌ على المرحلة التي وصلت إليها العجلة الاقتصادية الأوروبية، والأمر نفسه يمكن ملاحظته في سجلِّ المدفوعات والواردات في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشير الفارق إلى انهيار اقتصادي كاد يودي بالنظام الرأسمالي جملة، وكل ما تم من عمليات ترقيع جزئية لن يعفيه من انهيار حتمي، لاسيما وقد ابتليت الولايات المتحدة بقيادات مجنونة مسكونة بالحروب الخاسرة والتدخلات العسكرية الخارجية غير الضرورية بلا مصلحة ولا رسالة.
هاجمت أمريكا أفغانستان بعملية عسكرية واسعة مكلفة للخزينة الأمريكية وبحجج واهية، ولم يكن لها فيها مصلحة أو هدف حقيقي، إلا ما اخترعته من حرب صليبية ضد "الإرهاب"، هذا بعد أن كبَّدت أفغانستان والمتطوعون العرب والمسلمون الاتحاد السوفيتي هزيمته الساحقة التي تسببت في انهياره، وكل شيء في أفغانستان التي طردت السوفييت بالتنسيق الأمني الدقيق مع الأمريكان كان يمكن إدارته بتفاهم معهم، ولكن السلوك المتعجرف قاد بوش إلى حملة عسكرية أغرقت جيوش أمريكا في متاهات أفغانستان، وكسرت شوكتها ولم يتوقف جورج دبليو بوش حتى ألقى بأمريكا في صحراء العرب، فكانت كارثة أمريكا النوعية في الحرب على العراق بغطاء من تهم واهية وأهداف حمقاء، وحاولت أوروبا أن تعالج أزماتها الاقتصادية المستفحلة، وأن تجاري البلطجة الأمريكية فكان التدخل الفرنسي والبريطاني في ليبيا من خلال حلف الناتو، الذي أنزل حمم ناره على الليبيين لتدمير البلد وإغراقه في فوضى تسهِّل عمليات السرقة الواسعة لثروات البلد، ولئن استطاعت الدول الأوروبية إسقاط نظام القذافي فهي ستدفع ثمن ذلك من الهجرات المتوالية إليها ومن إرهاب مسلح يصل إلى مآمنها.
من الواضح أن القيادة الأمريكية تعيش حالة ارتجاج عقلي، فغابت عنها المقولات والأفكار التي تصنع ثقافة في العالم، كما كان لها ذلك خلال قرون، حيث كانت واحة الحرية والقوانين الإنسانية على صعيد مكوناتها الاجتماعية بعد الانتهاء من الحروب الأهلية، وبدأ الجنوح إلى الأفكار المحلية والاحتمائية والعنصرية الاستبدادية، وهنا حصل الاضطراب على صعيد الاستراتيجية خارجيا وداخليا، وهي لم تحدد بشكل نهائي أي الخيارين تريد، ولا أي الدول تكون على الصعيد الاجتماعي والعدالة في مجالات عدة على رأسها التأمين الصحي، فهل تكتفي بأن تكون دولة عظمى قوية؟ ام إنه لابد من علوِّ الامبراطورية والتسيُّد على العالم كما كان شأن السابقين من زعماء أمريكا؟ ولكل خيار استحقاقات وسبيل ورؤية واستراتيجية وبرنامج، في ظل فشل الحروب الخارجية من حرب فيتنام إلى حرب العراق وما ألحقته بالخزينة.
ومن الواضح أن أوروبا مصممة على عدم الانسحاب من المشهد الدولي لكي تعوض ما لحق بها من خسائر وتفكك في قدرتها الاقتصادية؛ فأوروبا تعلن دوما أن مشكلاتها الاقتصادية لا يمكن حلها إلا على مسرح شمال إفريقيا، ومن هنا تتحرك فرنسا وبريطانيا وإيطاليا في ليبيا وسواها، تنهب الذهب والبترول والثروات العديدة وتفتح لمنتجاتها أسواقا ضخمة في أماكن التصارع والتناحر، التي تشرف هي على تغذيته وتوجيهه واستمراره.
الأمر الذي لابد من تسجيله، أن المزاج الشعبي العام في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد أصبح ضد التدخل العسكري، ولقد تشكلت قوى اجتماعية وثقافية تعمل كمصد لثقافة التدخل الخارجي، ومن الواضح أنه لأسباب عدة يرون عبثية التدخل العسكري في الدول وعبر القارات.
صحيح أن أمريكا وبريطانيا والأوروبيين اخترعوا الكذب لغزو العراق، ولكنهم بعد أربع عشرة سنة يكتشفون أنهم لم يحققوا شيئا، بل إن الخسارة لحقت بهم على أكثر من صعيد، ولذا يصبح من العبث التفكير في تجديد الحرب في المنطقة، وهذا ما يجعل الموقف الأمريكي مضطربا إزاء ما يحصل في العراق وسوريا ولبنان؛ اضطراب يُفقِد السياسة الأمريكية المبادرة، وفي هذا الفراغ تحرَّك الروس بسلاحهم وجيوشهم على مساحة من الأرض حساسة وخطيرة؛ لأنها في مركز الاستراتيجية بمجاورتها للكيان الصهيوني.
لم تستطع الولايات المتحدة تكريس الأمر الواقع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فها هو الوليد "الاتحاد الروسي" يصبح قطبا نقيضا للولايات المتحدة الأمريكية ومنافسا شرسا ويقودها إلى التنافس الحاد الذي يكلفها مزيدا من الخسائر..
ولكن من الضروري التوجه إلى القول بأن الانهيار المستمر في الامبراطورية الغربية، التي تتخذ من واشنطن عاصمة لها، لا يعني بالضرورة أن البشرية تمتلك بديلا يستطيع أن يضبط إيقاع حركة البشرية في نظام ما، فلا الصين المهووسة اقتصاديا والبائسة اجتماعيا تمثل نموذجا بديلا، ولا الروس حيث الديكتاتورية السياسية والانغلاق الأمني للبلد، فلقد تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ما بصفة لم تحصل من قبل إلا في تاريخ العرب المسلمين، عندما فتحت الدولة حدودها أمام جميع الطاقات والخبرات من شتى دول العالم لتنعم بالتطور والتطوير، فتحركت أمريكا بخيرة طاقات بني البشر نحو صناعة أعظم نهضة تكنولوجية وأعظم اقتصاد عالمي.
البديل الحقيقي هو النقيض الجوهري المنهجي للحضارة الغربية في شقها الفلسفي والقيمي، إنه بلا تردد الأمة العربية الإسلامية، ولأسباب عديدة تلوح في الأفق مبرِّراتٌ منطقية لتحرُّك واسع في الأمة للأخذ بزمام المبادرة التاريخية، ولعل الحراك الذي يتم على صفيح ساخن في بلاد الشام والعراق، يمهِّد لخروج جيل مقاتل مغامر واع مدرك لشروط الانتصار، وعلى هذا المحور تشرق الآمال الإنسانية بانقضاء حقبة الشر والعنصرية الغربية والاستبداد الاستعماري الامبريالي، وبزوغ فجر حضارة إنسانية تجعل من الأسرة الإنسانية مناط تكليفها وأرضية استراتيجيتها وبرامجها، ويمنحها القدس وما حوله من مباركة المعاني الروحانية الكافية. المغالبة شاقة ولكنها حتمية وستسلم الحضارة الغربية رايتها للأمة العربية الإسلامية مرغمة وما ذلك على الله بعزيز.. تولانا الله برحمته.