حين أقول لأحدهم مقولة الثائر الراحل ... الشاب الخلوق "محمد يسري سلامة" رحمه الله : "لن أندم أبدا على الثورة وعلى مشاركتي فيها، وهي أجمل وأطهر وأنبل حدث في حياتي، وليس ذنبنا أننا قمنا بها وسط انتهازيين وجهال ومعدومي الوعي" ... يسخرون منه ومني !
قال لي أحدهم : (هو بيقول كده علشان ميت ... لو كان عايش كان سبّ الدين) !
يقول أحدهم : (أحنّ إلى تلك الأيام التي كنت ما أزال قادرا فيها على التحمّس لقضية ما، والسعي نحو حلم ما، والشعور بامتلاك إجابات عن أسئلة كثيرة ... الآن وقد تجاوزت هذه المرحلة التي ظننتها عدم نضج ومراهقة صرت حبيس اللامبالاة المحايدة، والواقعية العاجزة، واللايقين المربك !).
لا تثريب عليك يا صديقي، فنحن بشر ... الغريب أن هذه اللامبالاة – عند البعض – تتحول إلى مبالاة كاملة، وأحيانا إلى اشتباك عنيف، حين يتحدث أحد عن اصطفاف القوى الثورية، بل إنها تتحوّل إلى تصرفات عملية دؤوبة لوقف أي محاولة لترميم العلاقات بين مكونات الحياة السياسية في مصر.
يقول أحدهم : (مرة في عام 2007 أو 2008 مرّ عليّ صديق ... وظللت أحدثه بحماس شديد عن قناعاتي ... وبعد انتهائي قال لي "أنا رأيي إنك تصلّي على النبي وتخليك "فريش"، وأنا أنصحكم جميعا أن تصلوا ع النبي ... وتخليكم "فريش") !
هكذا ... بمنتهى البساطة يُهال التراب على تاريخ جيل كامل ... بكلمة "فريش" !
وبغض النظر عن كينونة الإنسان الذي يتحلى بهذه الصفة (فريش)، وبغض النظر عن القناعات الحالية لهؤلاء المحترمين، ما زال السؤال يلاحقني (لماذا يتعامل هؤلاء الأصدقاء مع أي دعوة للاصطفاف بشكل (أجريسيف!!!) مبالغ فيه من التربص والعداء؟ لماذا لا يكونون "فريش" مع الذين يرون أن توحيد المختلفين ليس مستحيلا ... هو أمر صعب بلا شك ... ولكنه ليس بمستحيل، وإذا كان هذا الأمر مستحيلا فلماذا لا نتعامل معه بالمنطق الـ"فريش"؟
هؤلاء الذين أتحدث عنهم ليسوا أعداء للثورة، وليسوا خارج الجماعة الوطنية، وليسوا موالين للنظام ... بل هم في القلب من الجماعة الوطنية، وهم في صميم قلب المتضررين من الوضع الحالي، ومن أهم وأبرز الذين دفعوا أثمانا باهظة لتراجع الثورة في جولة يوليو 2013.
لا يمر عليّ أسبوع إلا ويأتيني على بريدي (أرجوك ... المعتقل سين أو صاد يموت في زنزانته ... لا بد أن نضغط على النظام بحملة إعلامية تجبرهم على تحسين ظروفه، أو نقله للمستشفى ... الخ)
أو تأتيني رسالة (أرجوك ... فلان الفلاني خرج من مصر، وهو الآن في البلد الفلاني وتعرض لكذا وكذا وكذا ... نحتاج إلى دعم سياسي أو مالي أو علاقات أو تزكية أو بحث عن عمل ... الخ)
أو رسالة أخرى (صديقنا المناضل يحتاج إلى الخروج من مصر، النظام يتربص به، وإذا بقي فلا يعلم مصيره إلا الله، نحتاج إلى فيزة إلى أي دولة ... الخ)..
أو رسالة (علان العلاني رفضت السفارة المصرية تجديد جواز سفره، ويحتاج إلى كذا أو كذا أو كذا) ... والخ الخ الخ الخ.
أصبحت هذه الرسائل روتينا يوميا !
فإذا قلت لأحدهم ... لا يمكن أن تُلبى هذه الطلبات كلها، هناك عشرات الآلاف (وربما مئات الآلاف) من المعتقلين والمشردين والمنفيين والمطاردين والراغبين في الخروج ... لا بد من حلٍّ جذري، لا بد من تغيير هذا الوضع إذا كنا فعلا نريد أن ننصر هؤلاء المعتقلين والمنفيين والمطاردين والمضارين ... لا بد أن نوحد صفوفنا.
حين نقول ذلك يتحولون جميعا إلى فلاسفة ... المشكلة أن الفيلسوف يهدف إلى الحق والخير والجمال، ولكن هؤلاء الأعزاء يبررون الباطل، والشر، والقبح.
لقد تمكّن اليأس من هؤلاء الأصدقاء، ولا لوم عليهم، فنحن بشر، ولكننا نلوم على بعضهم تحوُّلهم إلى دعاة لليأس، وعلى بعضهم تحوُّلهم إلى عائق يعرقل أي مشروع للتغيير بحجج مختلفة.
بعض هؤلاء الأعزاء وصلوا إلى درجة مفزعة من الهزيمة النفسية حتى أنهم يقترحون جمع عدة مليارات من الجنيهات وإعطائها للنظام المصري مقابل الإفراج عن المعتقلين ... وكأنهم في السجن بسبب مخالفة مرورية !
أو كأن هذا النظام من الممكن أن تعقد معه أي صفقة أصلا !
هذا النظام هدفه كسر هذا الجيل، ولن يتركنا (في حالنا) أبدا، مهما دفعنا له من الأموال، ومن لا يرى ذلك فهو في حالة انفصال تام عن الواقع.
هذه الفكرة – مع انهزاميتها – ليست أسوأ ما يحدث، بل هناك ما هو أسوأ، فبعض هؤلاء الأعزاء يرسلون الرسائل لأصدقائهم المعتقلين لحثهم على الاستسلام، وعلى طلب العفو من "سيسي" والمؤسسة العسكرية !!!
لا أحب أن أنشر ذلك ... ولكن لا بد أن يعلم الناس الحقيقة !
هناك عشرات الآلاف في السجون، وما زالوا صامدين، ولكن للأسف الشديد هناك من يوسوس لهؤلاء الصامدين بأن يستسلموا بإطلاق مبادرة ما تشمل مراجعات مع طلب للعفو، وهذا من مساخر الزمن، أن ترى من في السجن صامدا صابرا، وترى من في الخارج في حالة من اليأس لا مثيل لها، وهو يحرض السجين المسكين على اليأس بدلا من إمداده بالأمل !
(إحقاقا للحق هذه الاقتراحات ليست من تيار واحد، بل هي من المهزومين في جميع التيارات).
هؤلاء الأصدقاء يتهمون دعاة الاصطفاف بثلاث اتهامات رئيسة :
التهمة الأولى : انعدام الرؤية
فإذا قلت لهم ... هلموا نضع رؤية موحدة، نتوافق فيها على الحد الأدنى، وعلى المشترك الوطني بيننا ... رأيتهم يعتذرون أو يتهربون.
وإذا قلنا لهم ... أنيروا لنا الطريق برؤيتكم الخاصة، ونحن على ثقة أن المشترك كبير ... نصل للنتيجة نفسها ... اعتذار وتهرب من أي عمل مفيد، أو أي تعاون مثمر.
التهمة الثانية : نحن لا نرى أن الداعين للاصطفاف حاليا مؤهلين للقيادة
وبعد أخذ ورد لسنوات ... وصلنا لدرجة أننا قلنا لهم (فلتقودوا أنتم المسيرة يا شباب ... ونحن سنسير من خلفكم) ... فما وجدنا إلا سكوتا مطبقا، وانسحابا كاملا من تحمل أي مسؤولية.
التهمة الثالثة : ولها صياغتان ... الصياغة الأولى على لسان بعض أنصار ما يسمى بالتيار المدني.. وخلاصة الكلام (إن أي تعامل مع التيار الإسلامي قبل مراجعة الأفكار الإسلامية المغلوطة من عهد الخلافة الراشدة إلى اليوم ... ستؤدي إلى دولة عسكرية أو دولة دينية ... لا فائدة من التعامل مع هؤلاء الإسلاميين) !
أي أن هناك من يشترط عليك – قبل أن يبدأ العمل معك – أن تصلح الكون !
وإذا أصلحنا الكون ... فلماذا نتعاون؟ أو على ماذا نتعاون؟
إنه أشبه بطبيب يشترط على المريض أن يزول مرضه قبل أن يكشف عليه.
أنا لا أقول إن الإسلاميين ملائكة، ولكن أتحدث عن معقولية المطالبات، فكل إصلاح أو مراجعة تحدث بالتدريج، والحقيقة أن جميع التيارات الآن في مرحلة مراجعة (خصوصا الشباب).
الصياغة الثانية : يطلبها بعض الإسلاميين من التيار المدني (وخلاصة مطالباتهم أن يتحول الليبراليون واليساريون إلى إسلاميين)، لأنهم لا يريدون أن يزايد عليهم أحد ... ولله في خلقه شؤون !
إلى كل هؤلاء الإخوة من كل التيارات (وبعضهم من أعز أصدقائي) أقول :
"إن العالم يفسح الطريق لمن يعرف الى أين هو ذاهب" كما قال إمرسون، فحاولوا أن تعرفوا إلى أين تريدون الذهاب، وإلى أين تجرّون مصر والمنطقة كلها.
بهذه الطريقة من (اللاشيء) سنذهب إلى خراب كامل، وعلينا جزء كبير من مسؤولية هذا الخراب، وإننا سوف ندفع ثمنا باهظا – نحن بأشخاصنا – بسبب تراجع أهمية القضية المصرية، لا قيمة لنا إذا فشلت الثورة، وإذا استسلم الثوار، وسيعيش غالبيتنا في ذل إلى آخر عمره إذا لم نتحرك جميعا لتغيير هذا الوضع.
رسالتي لكم ... اتحدوا ... وإذا يئستم فالزموا مشاريعكم الخاصة دون تشويش على الآخرين، ودون محاولة إلقاء الحجارة على من يعملون.