الرسالة التي وجهتها جماعة الإخوان المسلمين المصرية- (ما يعرف في الإعلام بجبهة محمود عزت، أو مكتب لندن)، للقمة العربية، تولّدت من رحم منبتّ عن اللحظة الراهنة، وإن لم يكن غريبا عن النفس العام الذي يتبناه هذا الفريق الإخواني، فعموما، كانت المشكلة الأبرز لجماعة الإخوان المسلمين، من بعد الثورة المصرية، في استصحابها أدوات قديمة، اعتادتها الجماعة، لمعالجة أوضاع جديدة، تفاجأت بها الجماعة، ولم تكن مستعدة لها.
لقد أصبحت الأدوات جزءا من عقيدة الإخوان السياسية والتنظيمية، وبالنظر إلى حجم الجماعة وتاريخها، وتقديرها المفرط لنفسها، لم يكن متوقعا منها أن تتكيف سريعا مع الأحداث الجديدة، وإن كان متوقعا في لحظة ما، وبعد الاصطدام باليقين، المتمثل بالدم والانكسار من بعد لحظة زائفة انتفخ فيها الأمل وانتظرها الإخوان أكثر من 80 عاما، أن تدخل الجماعة في أزمة داخلية بنيوية، تتضمن بالضرورة قدرا من الانقلاب على العقيدة السياسية والتنظيمية التي استدخلت إلى ذاتها الأدوات والوسائل وجعلتها في مصاف المبدأ السياسي والتنظيمي.
وكان متوقعا أن ينفخ ذلك في الأزمة، لأن التكيف مع حقائق الواقع وتحولات الزمن، سيكون بالضرورة مستعصيا على فريق أساسي في الجماعة، وبالإضافة إلى لوازم الفكر الإخواني وطبائع الشخصية الإخوانية، فإن الأنماط التنظيمية التي تعزز الاحتكار وتعلي من روح الأبوة والوصاية، ستدفع نحو صدام داخلي، يتوفر على طاقة صادمة لأفراد وعناصر الجماعة الذين نشؤوا على تصورات مثالية عن الجماعة وقياداتها.
لقد أدت جماعة الإخوان المسلمين دورا تاريخيا مهما، وكانت من أهم القوى الدافعة في حركة التاريخ في المرحلة الماضية، وفي مجالات متعددة، من بعد انهيار الدولة العثمانية، وخضوع البلاد العربية لعمليات تغريب وتحديث فوقية وقهرية، وامتد هذا الدور الإخواني الإحيائي، إلى مجالات مجابهة الاستعمار، وعن هذه الأدوار أخذ الوعي يتعاظم لدى جماهير الأمة، التي أفرزت بدورها اتجاهات وجماعات وأفكار تلتقي وتختلف مع الإخوان ولكنها في النهاية تصطف كلّها باحثة عن الحلول لمشكلات هذه الأمة المستعصية.
الثابت أن أحداث الثورات العربية كانت أكبر من الجميع، من الإخوان وغيرهم، وأن التصور المتضخم عن قدرة الإخوان على تحمل أعباء المرحلة والنهوض بها؛ لم يكن عيب الإخوان وحدهم، وإنما كان عيب الكثيرين ممن اعتقدوا بأن الإخوان قادرون على النهوض بالمرحلة أو ابتلاعها، بيد أننا كلنا، على الأغلب، لم نكن نعرف لا المرحلة وطبيعتها وسياقها وشروطها التاريخية، ولا أنفسنا، ودولنا، وجماعاتنا.
انقسام الإخوان الداخلي، ليس مؤشرا سيئا بالضرورة، بالنظر إلى ضرورة أن ينهض فريق من الإخوان بالمراجعة، واستحالة أن ينهض الجميع بذلك مرّة واحدة، وهذا بالتأكيد ليس تزكية للاختلاف، ولا دعوة للكفّ عن التوحد لمواجهة التحدي الراهن، ولكنه تصور لمآلات الأمور بالنظر إلى حجم الحدث، وطبيعة الإخوان، فالوحدة ينبغي أن تقوم على تصورات صحيحة، تتعظ من الماضي، وتعي الحاضر والمستقبل.
إن حجم الحدث أكبر من أن تطيقه أي جماعة، وأكبر من أن تتمكن أي جماعة من الاحتفاظ بتوازنها وتماسكها، وإذا كان طبيعيّا وضروريّا ظهور فريق يسعى للبحث عن أدوات جديدة للمرحلة الراهنة، وينقلب على نحو ما على بعض مما استقر في الفكر والشخصية الإخوانية، وبالنظر إلى ما سبق بيانه عن الطبيعة الإخوانية، كان لابد من أن يتكرس فريق نقيض لذلك الفريق الإصلاحي.
ليس مطلوبا التنبؤ الآن بمستقبل هذا الانقسام، أو التدافع الإخواني الداخلي، لأن المرحلة ستظل أكبر من الإخوان، فالمرحلة كبيرة وضخمة ومستعصية في ذاتها، ولأن مشاكل الأمة المتراكمة أكبر من الإخوان أيضا، وعلى الأرجح فإن هذه المرحلة بما هي مرحلة وسيطة بين زمنين، ستفضي إلى وقائع جديدة تتجاوز الزمن الماضي بفاعليه كلهم، دون أن يعني ذلك انتفاؤهم أو انتهاء أدوارهم بالكلية.
رسالة الإخوان للقمة العربية، تنتمي إلى الزمن الماضي، زمن طلب الشرعية والاعتراف من الفاعلين المهيمنين؛ الدولة، والنظام الإقليمي، والنظام الدولي، وهي كانت تستحق النقد تحديدا لهذا السبب، والبيان الإخواني المناوئ لتلك الرسالة أقرب للحظة الجارية.
وبالإضافة إلى لغة الخطاب التي اتجهت بالتبجيل للأنظمة التي تعمل على استئصال الإخوان حيثما كانوا، دار السجال حول تسمية الرسالة للكيان الصهيوني بـ "دولة إسرائيل"، ومع أن هذه التسمية باتت متداولة حتى في الأوساط الأكثر تظاهرا بالجذرية في العداء للكيان الصهيوني، إلا أنها كانت مفردة مهمّة في ذلك السجال الإخواني الداخلي، أو في سجال الإسلاميين مع رسالة الإخوان تلك، على نحو لم يزل يبعث على الاطمئنان بخصوص صدق وجذرية فريق واسع من الإسلاميين في موقفه من الكيان الصهيوني، وقد سبق لي وقلت إن الموقف من "إسرائيل" هو أفضل ما ظلّ عليه الإخوان المسلمون.
بيد أن تناقضا جليّا تبدا لدى بعض من انتقد هذه المفردة، واستند في الوقت نفسه إلى نقد الدكتور أحمد الريسوني السابق للإخوان المسلمين، على نحو يبين عدم عناية هذا البعض بمقولته وموضوعة نقده، بقدر اهتمامه بنقد الإخوان كيفما اتفق، وبما يكشف عن معضلة أخلاقية من جهة، وأزمة مستحكمة لدى الجميع من جهة أخرى، فاقتصار التعقيب على الشأن العام على انتقاد الإخوان دليل على فشل الجميع لا على فشل الإخوان وحدهم.
معلوم أن الدكتور الريسوني عاب على الإخوان، من جملة ما عابه عليهم، "جمودهم" على موقف حسن البنا السياسي من "إسرائيل"، وهي جملة قالها الريسوني بلسانه، وكان عليه أن يوضح قصده منها لاحقا حينما حاول توضيح ما انتقده على الإخوان، ولكنه بدلا من ذلك تهرب بالقول إن "إسرائيل" لم تكن موضوعه، وهو لا يريد "تحريف مجرى الكلام عن موضوعه وغرضه"، غير أن التطور الفكري لدى الدكتور بخصوص "إسرائيل" معروف، وهو الذي سبق له في العام 2006 وأفتى لحماس بجواز أن تعترف هي تحديدا بـ "إسرائيل".
ليس الموضوع في الحقيقة الدكتور الريسوني، وإنما من انتقد الإخوان بخصوص هذه الموضوعة، أي تسمية رسالة الإخوان للكيان الصهيوني بـ "دولة إسرائيل" دون أن تضعها بين مزدوجين، واستناده في الوقت نفسه إلى نقد الريسوني للإخوان، دون أن ينتقد الريسوني على دعوته الإخوان للتخلي عن "جمودهم" على موقف البنا من "إسرائيل"، فهذا التناقض لا يمكن تفسيره، سوى بالانطباعية أو الهوى.
إن الحالة الراهنة تحتاج إلى مقاربات نقدية أكثر عمقا وتجردا، تطال كل الفاعلين، من الإخوان وغيرهم، وتعيد تناول معطيات الفكر الإسلامي، وتجلياته السياسية كلها بلا استثناء، لا اقتصار المساءلة على الإخوان وحدهم، وهي كثيرا ما تكون مساءلة انطباعية، وهروبية، فقصور الإخوان، لا يعني رشدنا وبلوغنا الغاية!