قضايا وآراء

من يحكم تونس (1)

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
 مقدمة: "الممارسة هي التي تصنع العقل والثقافة السياسية وليس هناك عقل سياسي جاهز. وإنما العقل السياسي هو كغيره نتيجة لمراكمة خبرات عملية تتشكل بصيرورتها حالة ذهنية أو خبرات نظرية
لإدارة أي عمل أو شأن"... (طه عد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل)

قبل الثورة التونسية، كان الوعي العفوي للناس يدرك جيدا أنّ من يحكم تونس ليس هو هؤلاء
الذين تمجدهم الآلة الدعائية للنظام وتحميهم آلته الأمنية، كان الناس يحدسون –بدرجات متفاوتة من القوة الاستدلالية العقلانية- أنّ الحاكم الفعلي للبلاد هو من جاء ببن علي إلى سدة الحكم في انقلاب 7 نوفمبر للحفاظ على الخيارات الكبرى للنظام و بالتالي لحماية مصالح المتنفذين فيه، تلك المصالح المادية والرمزية التي صارت مهددة في أواخر الفترة البورقيبية بسبب صراعات الأجنحة داخل المنظومة، وبسبب الخطر"الإسلامي" ممثلا في حركة الاتجاه الإسلامي.

بعد تدليس الانتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 1989، تلك الانتخابات اليتيمة التي شهدت مشاركة الإسلاميين والمستقلين بصورة مكثفة، عرفت البلاد تصحرا سياسيا بسبب القمع الممنهج  للإسلاميين أولا، ثم من بعدهم لكل أصوات المعارضة الحقيقية التي رفضت وضع المعارضة الكرتونية المدجنة والخادمة للنظام الاستبدادي.

كان الناس يعلمون جيدا أنّ شرعية بن علي لا ترتبط بأصواتهم المتلاعب بها (رغم حاجة النظام إلى الديكور الديمقراطي في مستوى التسويق لصورته "الحداثية " عند أصدقائه في الخارج)، كانوا يعلمون جيدا أنّ قوته تأتيه من خارج الإرادة الشعبية، وأنها تكاد تنحصر في أدوات القمع الأمنية والإيديولوجية الساهرة على حماية مصالح "الملاّكة" وأسيادهم في الغرب تحت شعار جامع هو "حماية النمط
المجتمعي التونسي".

بعد الثورة التونسية، كان من المتوقع أن يجد مشروع المواطنة (ومقوّماته المادية والرمزية والمؤسساتية) مقاومة وتشكيكا كبيرين من طرف المتضررين منه، أي من طرف المتنفذين في المنظومة الدستورية- النوفمبرية التي حكمت تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ولكن كان من المنتظر أيضا –بعد انتخابات حافظت على مستوى محترم من النزاهة والشفافية- أن تدفع الإرادة الشعبية إلى سدّة الحكم بمن يدافع عن استحقاقات الثورة وانتظارات الفئات والجهات المسحوقة.

لم يكن مسار الانتقال الديمقراطي (من جهة العملية الإنتخابية  ومن جهة مأسسة الثورة) يهدف في نهاية التحليل إلا إلى بناء مناخ عام يساعد على إعادة توزيع الثروات المادية والرمزية بصورة أكثر عدلا، فمن نافلة القول أن نقول إنّ من قام بالثور لم يكن يريد إعادة إنتاج منطق النظام الذي ثار عليه أو إعادة إنتاج سياساته وخياراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبرى. ولكن كان يحول دون النجاح في هذا الاستحقاق الثوري المركزي عائقان كبيران: مقاومة المنظومة الحاكمة قبل الثورة من جهة أولى، ومن جهة ثانية طبيعة الطبقة السياسية ذاتها من حيث ارتباطاتها ومفرداتها ورهاناتها.

مثّل حكم الترويكا درسا سياسيا نموذجيا في استحالة حكم البلاد بدون تسويات مؤلمة مع مكوّنات المنظومة القديمة خاصةً بعد أن اعتبر "الحداثيون" قاطرتها السياسية (حركة نداء تونس) جزءا من "العائلة الديمقراطية". كما مثّلت تلك المرحلة درسا قاسيا في ضرورة تنسيب سلطة صناديق الاقتراع (القوّة الكمية) في مقابل سلطة اللوبيّات المالية والأيديولوجية والجهوية وما توفّره من شبكات الرعاية المتبادلة المتغلغلة في مفاصل الدولة والمجتمع المدني (القوة النوعية).

بعد الانتخابات الأخيرة سنة 2014، استطاعت المنظومة الحاكمة قبل الثورة أن تعود -بلا واسطة ولا وكلاء- إلى واجهة المشهد السياسي بوصول ممثليها إلى سدة الرئاسات الثلاث( رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان). كان التونسيون يعلمون أن هذا "التجمع" الجديد للقوى الدستورية واليسارية (حركة نداء تونس) ليس إلاّ "التجمع الدستوري الديمقراطي" مع تعديل بسيط في خطابه السياسي ليتوافق "صوريا" مع اللحظة التاريخية"الثورية".

 كانت القاعدة الانتخابية لنداء تونس ذاتها توقن أنّ الحزب الذي صوتت له ليس إلا وريثا للتجمع المنحل، وليس إلا تجمّعا لأصحاب المصالح التي تشكلت زمن بن علي بصورة أقل ما يقال فيها أنها مشبوهة.

 ولكن هذا اليقين لم يمنعها من انتخاب النداء انتخابا هو أقرب إلى رد الفعل البافلوفي تحت ضغط خطابات التزييف والدمغجة الإعلاميةمن جهة أولى، وضغط الواقع أمنيا واقتصاديا من جهة ثانية. فقد كان نداء تونس وعدا باستعادة التوازن في البعدين الأمني والاقتصادي، أي كان وعدا بالحد من الخسائر التي تكبّدها التونسيون بعد الثورة(لأسباب عفوية أحيانا تتعلق بالصيرورة الطبيعية ل، ولأسباب مفتعلة في أغلب الأحيان قصد تأليب الناس ضد الثورة وضد من جاءت بهم الإرادة الشعبية للحكم).

 بعد أكثر من سنتين ونصف من وصوله إلى الحكم، وبعد تشكيله لحكومة توافقية ( مع حركة النهضة) ولحكومة وحدة وطنية ( اتسعت لتكافئ بعض حلفاء الأمس في الانتخابات الرئاسية خاصة)، يبدو أنّ
نداء تونس العاجز عن تحقيق الحد الأدنى من وعوده الانتخابية قد أعاد التونسيين إلى مربع السؤال الأول: من يحكم هذه البلاد؟

 أثبت حجم المقاومة التي واجهت استحقاقات الثورة من مراكز النفوذ وأصحاب المصالح المشبوهة قوّة المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة. كما أثبتت تلك المقاومة أنّ النظام بفقدانه لرأسه ولبعض رموزه العائلية والحزبية لم يفقد إلاّ الجزء الأقل قوّة منه. فقد أظهرت النواة الصلبة للبنية التسلطية النوفمبرية
(وهي نواة مالية-جهوية-أمنية) قدرات عقلانية وبراغماتية كبيرة على تطويع أهم الفاعلين الجماعيين بمن فيهم أعداء الأمس ( في مختلف الحقول السياسية والإعلامية والمدنية والنقابية) لخدمة استراتيجيات تلك النواة الصلبة في إعادة التموقع والانتشار حمايةً لمصالحها المادية وما يؤسسها من سرديات وأنساق حجاجية كادت أن تفقد قيمتها التداولية في لحظة الاختلال الأقصى الذي حدث في الأيام الأولى من الثورة.

بعد الثورة، وقف التونسيون على حقيقة مركزية كان لها دور كبير في تحديد مسارات الصراعات "الداخلية" ومساراتها بل التحكّم حتى في مآلاتها: ليس "النظام" منظومة مغلقة بالإمكان تعديلها أو حتى تثويرها بدون أي تدخّلات "خارجية"، بل إنّ "النظام" الذي طالب التونسيون في ثورتهم بإسقاطه هو مجرّد عنصر في منظومة إقليمية ودولية كانت دائما حاضرة في عملية الانتقال الديمقراطي بمصالحها ومنطقها ووكلائها أيضا.

ولا يعني ذلك بالنسبة للمشتغل بالشأن العام –في واقع تفتقد فيه الدولة لمقوّمات السيادة- إلا أن يأخذ هذا "الخارج" بعين الاعتبار بما هو "الفاعل الأساسي" في الشأن التونسي بصرف النظر عن "عنتريات" السياسيين والإعلاميين وبكائياتهم"الوطنية".

هل يعني ذلك أنّ تونس هي مجرد محميّة لمراكز القرار الغربي وأنّ هامش المناورة والتفاوض عند النخبة السياسية المستأمنة على حماية مسار الانتقالي الديمقراطى هو هامش يكاد أن يكون
صفريا؟ هل يعني ذلك أنّ وضعية التبعية وفقدان مقوّمات السيادة هي وضعية قدرية لا مهرب منها ويكون على التونسيين بالتالي التفاوض على تحسين شروط استعبادهم لا أكثر ولا أقل؟

هل يعني ذلك أنّ من يحكم تونس هو فعلا كتلة متجانسة –رغم اختلافاتها الظاهرة- وأنها عاجزة عن تجاوز السقف الذي رسمته سياسات الدولة التي قامت عليها الثورة؟  إنها أسئلة لا يمكن أن نجيب عليها ما لم نحدد هوية الحاكم الفعلي لتونس الآن-وهنا ومن يدعمه محليا وآقليميا ودوليا، وما لم نحدد بعد ذلك علاقة ذلك الدعم بالأفق الثوري وبانتظارات الناخبين.إنها الإشكالية المركزية التي سنفرد لها الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله...
0
التعليقات (0)

خبر عاجل