مقالات مختارة

الموصل: استراتيجية التدمير بدل القتال

يحيى الكبيسي
1300x600
1300x600
لقد حذرنا منذ انطلاق العمليات العسكرية لاستعادة الجانب الأيمن من مدينة الموصل يوم 19 شباط/ فبراير، من احتمال تعرض المدنيين إلى كارثة، ذلك أن الجانب الأيمن يضم المدينة القديمة ببيوتها القديمة، وحواريها الضيقة، فضلا عن مئات الآلاف من المدنيين العالقين بسبب منع تنظيم الدولة/ داعش مغادرتهم لها من جهة، ومطالبة الحكومة العراقية إياهم بالبقاء في منازلهم! 

وبسبب الاستراتيجية التي اعتمدتها القوات العسكرية العراقية في معركة الساحل الأيمن، والتي اعتمدت التدمير بدلا عن حرب مدن تقليدية، عبر الاستخدام المفرط للكثافة النارية، بمختلف أنواع الأسلحة غير النقطوية كالصواريخ والمدفعية الثقيلة والراجمات والهاونات بمختلف أحجامها، وهذه الأسلحة عادة تدمر مناطق كاملة ولا تسعى إلى إصابة أهداف بعينها! 

وسبق للقوات العراقية أن اعتمدت هذه الاستراتيجية في معارك سابقة، تحديدا في مدينتي الرمادي وبيجي، أسفرت عن تدمير المدينتين بنسب تراوحت بين 80? و100?. ولكن هاتين المدينتين على الأقل كانتا شبه خاليتين من السكان، على عكس الساحل الأيمن من الموصل الذي ضم قبل انطلاق المعركة بحسب التقديرات أكثر من 800 ألف مدني، ولا يزال حتى هذه اللحظة يضم أكثر من 550 ألف مدني على أقل تقدير، بعد أن وصل عدد النازحين منه ما يقرب 250 ألف نسمة حتى اللحظة.

وكنا في مقالة سابقة قد أشرنا إلى أن الخطة المعدة لاستعادة الساحل الأيمن من الموصل جاءت مع المتغير الأمريكي المتعلق بوصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتنصيب جيمس ماتيس، المشهور بلقب «الكلب المسعور» وزيرا للدفاع! ومعهما بدت الرغبة الأمريكية في تحقيق نصر حاسم وسريع على تنظيم الدولة/ داعش، لا سيما مع التعثر الواضح في سياسات ترامب الداخلية. 

وبدا تأثير هذا المتغير واضحا على الساحة السورية أيضا، سواء من خلال إرسال قوات أمريكية إلى منبج، أو إرسال مدفعية ثقيلة تمهيدا لمعركة الرقة. وأغلب الظن أن استعادة الرقة ستعتمد هي الأخرى على استخدام الكثافة النارية الكثيفة لقصف المدينة، من دون الدخول في معركة مدن تقليدية، بسبب نقص عديد القوات على الأرض، سواء تم الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، أو الاعتماد على قوات المعارضة السورية المدعومة تركيا. 

مع استمرار المعارك، للأسبوع الخامس على التوالي، ومع استعادة ما يقرب من 50 في المئة من المدينة، بدأت تتضح بعض ملامح الكارثة المتوقعة في الموصل، سواء على مستوى الضحايا المدنيين، أو على مستوى تدمير المدينة! بعد قرار تنظيم الدولة/ داعش بالقتال حتى الرمق الأخير! 

ومع التكتم الشديد الذي تبديه الجهات الرسمية العراقية عادة فيما يتعلق بعدد القتلى بين المدنيين والعسكريين، وهو تكتم تعتمده هذه الجهات بشكل منهجي، إذ لم تصدر أي جهة رسمية عراقية، عسكرية أو مدنية، أية أرقام تتعلق بهذه المسألة في أي من المعارك التي خاضتها، على الأقل في إطار المواجهة الحالية التي بدأت في آب 2014 لاستعادة المناطق التي يسيطر علها تنظيم الدولة/ داعش. 

وربما يكون المثال الأهم هنا هو القتلى المدنيين الذين سقطوا في الفلوجة جراء القصف العشوائي الذي تعرضت له، سواء بالبراميل المتفجرة الملقاة جوا، أو القصف بمختلف أنواع الأسلحة، على مدى سنتين ونصف (سيطر تنظيم الدولة/ داعش على الفلوجة في بداية كانون الثاني/ يناير 2014، واستعادتها القوات العراقية في نهاية حزيران/ يونيو 2016). 

فالأرقام التي كانت تعلنها الجهات الطبية المحلية تحدثت عن أكثر من 2000 قتيل مدني، فضلا عن آلاف الجرحى، في ظل تشكيك رسمي عراقي بهذه الأرقام! وعلى الرغم من استعادة المدينة منذ ما يقرب من 9 أشهر، لم تصدر أي جهة رسمية عراقية الأرقام الحقيقية المتعلقة بهذه المسألة حتى اللحظة!

لقد ظهرت الصور الموثقة لنازحين من الجانب الأيمن عوائل من الموصل وهم يحملون جثثا لمدنيين محمولة على عربات دفع خشبية، فضلا عن شهادات لشهود عيان تتحدث على عوائل كاملة دفنت تحت ركام منازلها في مناطق مختلفة من المدينة جراء القصف، لكن ما جرى يوم 17 من هذا الشهر، في موصل الجديدة، كان بمثابة إنذار عما يتعرض له الموصليون من ويلات، كما كشف عن المحاولات المنهجية للجهات الرسمية العراقية لإخفاء ما يجري على الرغم من توارد تقارير عن تعرض منطقة موصل الجديدة إلى قصف جوي أدى إلى مقتل المئات من المدنيين. 

مع ذلك لم تصدر الجهات الرسمية العراقية بيانا رسميا إلا بعد ستة أيام على الحادثة! فقد أصدرت خلية الإعلام الحربي بيانا يوم 23 آذار/ مارس تحدثت فيه عن «تناقل بعض وسائل الإعلام أخبارا عن وقوع ضحايا بين المدنيين في الجانب الأيمن من الموصل»! لينتهي البيان إلى أن «عصابات داعش الإرهابية تصور الضحايا الأبرياء الذين تقوم بقتلهم على انهم ضحايا قصف القوات العراقية البطلة لتضليل الرأي العام والحصول على مكاسب إعلامية بهذه الطريقة المضللة». 

وكما هو واضح فالبيان لا يتحدث عن «واقعة محددة»، بل يحاول التشكيك بالواقعة من الأصل! في اليوم نفسه بثت قناة فضائية عراقية تقريرا عن البيت الذي تم قصفه! يتحدث فيه رجال الدفاع المدني وشهود العيان عن عشرات الضحايا الذين كانوا لا يزالون تحت أنقاض المنزل من جراء قصف جوي. 

بعد يومين، صدر بيان آخر يتحدث هذه المرة عن تواريخ ووقائع محددة! وأنه يوم 17 آذار/ مارس سيطرت قوات جهاز مكافحة الإرهاب على حي الرسالة في تماما الساعة السادسة عصرا، وأنه في الساعة الثامنة و25 دقيقة صباحا من اليوم نفسه كانت القوات العراقية قد طلبت من التحالف الدولي توجيه ضربة على «مجموعة من الدواعش ومعداتهم»، من دون تحديد ما طبيعة هذا الهدف، فيما إذا كان منزلا أو شيء آخر! وأن فريقا من « الخبراء العسكريين» قاموا بفحص «مكان البيت الذي تناقلته وسائل الإعلام»، ووجدوا « أن البيت مدمر بشكل كامل وجميع جدرانه مفخخة»، وأن الخبراء لم يجدوا «أي حفرة أو أدلة على أنه تعرض إلى ضربة جوية»! وأنه تم «إخلاء 61 جثة منه»! 

وبعيدا عن هذا التناقض بين البيانين، والمغالطات التي وردت فيهما، وهو ما يكشف عن محاولة للتغطية على الحادثة! وتأكد هذا الإصرار على إخفاء حقيقة ما حدث، اتخذت القيادات العسكرية قرارا في اليوم نفسه بمنع دخول رئيس المجلس المحلي لمدينة الموصل، السيدة بسمة بسيم، لأنها ظهرت في وسائل الإعلام وهي تتحدث عن «الصورة الحقيقية لتدمير التحالف الدولي لمنطقة موصل الجديدة وطالبت بفتح تحقيق في المجزرة» التي أدت إلى مقتل أكثر من 500 مدني.

علما أن حي موصل الجديدة يعد من الأحياء الحديثة نسبيا، وهي كانت ضمن قاطع قوات مكافحة الإرهاب الأكثر انضباطا فيما يتعلق باستخدام الكثافة النارية! لذلك فان الكارثة الحقيقية قد تكون في أحياء مدينة الموصل القديمة ذات البنية المتهالكة، والتي تقع ضمن قاطع الشرطة الاتحادية التي تستخدم كثافة نارية كبيرة في قصف المدينة!

لقد حظر البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف الرابعة (المادة 51) ما أسماه «الهجمات العشوائية»، والتي عرفها بأنها تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن أن يوجه إلى هدف محدد؛ أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها ومن ثم فان من شأنها أن تصيب الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية (غير العسكرية) دون تمييز. 

وقد صنف البروتوكول الهجمات العشوائية بشكل صريح على أنها «القصف بالقنابل» الذي يعالج أهدافا عسكرية متفرقة تقع في مدينة تضم تركزا من المدنيين أو الأعيان المدنية، على أنه هدف عسكري واحد؛ أو الهجمات التي «يمكن أن يتوقع منها خسارة في أرواح المدنيين أو إصابة بهم أو أضرارا بالأعيان المدنية». 

ولكن من الواضح أن ثمة تواطؤا جماعيا، محليا وإقليميا ودوليا، على الصمت إزاء القصف العشوائي الذي تتعرض له الموصل، فالهدف هو القضاء التام على مقاتلي تنظيم الدولة/ داعش في هذه المدينة، وليس ثمة مشكلة إذا ما سقط المدنيون دون ذلك الهدف! ونحن الذين كنا نعتقد أن مقولة الترس لا يتبناها سوى جماعات السلفية الجهادية!

"القدس العربي"
0
التعليقات (0)