للإسلام، في الثروات والأموال، فلسفة فريدة ومتميزة عن سائر الفلسفات التي عرفتها الحضارات والأنساق الفكرية الأخرى.
فعلى حين أطلقت الليبرالية الحرية للملكية الفردية، دونما حدود أو قيود، وعلى حين اعتبرت الشمولية الماركسية الملكية لصوصية وسرقة غير مشروعة، جعل الإسلام الملكية الحقيقية - ملكية الرقبة - في الثروات والأموال لله سبحانه وتعالى، فالمال مال الله، وجعل الناس - كل الناس - خلفاء ومستخلفين عن الله، في حيازة الأموال وملكية المنفعة فيها - الملكية المجازية - وفي الاستثمار والاستمتاع وفق ضوابط الشريعة الإسلامية، التي تمثل بنود عقد هذا الاستخلاف، على النحو الذي يوازن بين غنى الأغنياء وضمان حد الكفاية لجماهير الناس.
وبدءا من القرآن الكريم، والتطبيقات النبوية لما جاء في القرآن عن هذه الفلسفة الإسلامية في الثروات والأموال، ثم ما كتبه الفقهاء في تراثنا الفقهي، وحتى عصرنا الحديث، نجد تراثا إسلاميا نفيسا وغزيرا في هذا الميدان.
ولقد زادت أهمية هذا الفكر الإسلامي - في هذه القضية - عندما استقطبت الفلسفات التي أفرزتها الحضارة الغربية، الليبرالية والشمولية، الكثير من مذاهب الفكر الاجتماعي، فانبرى عدد من علماء الإسلام ومفكريه للكتابة عن فلسفة الإسلام المتميزة والممتازة في الثروات والأموال.
ومن هؤلاء العلماء الإمام الشيخ محمود شلتوت (1310 - 1383هـ ، 1893 - 1963م) الذي كتب وقال: "إن فائدة المال يجب أن تعم المجتمع كله، لتقضي به حاجته، ولقد أضاف الله سبحانه وتعالى المال تارة إلى نفسه - تنويها بشأنه - وجعل المالكين مستخلفين في حفظه وتنميته، وإنفاقه بما رسم لهم في ذلك: "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" (الحديد 7)، "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" (النور 33)، وأضافه أخرى إلى الجماعة، وجعل كله بتلك الإضافة ملكا لها: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" (البقرة 188)، "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (النساء 5)، وأرشد بذلك إلى أن الاعتداء عليها أو التصرف السئ فيها هو اعتداء أو تصرف سيء واقع على الجميع.
وإذا كان المال مال الله، وكان الناس جميعا عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله، هي لله، كان من الضروري أن يكون المال - وإن ربط بشخص معين - لجميع عباد الله، ويحافظ عليه الجميع، وينتفع به الجميع، وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" (البقرة 29).
ومهما رفع دعاة الاشتراكية رؤوسهم ونادوا بها بين الناس، فإنك لست واجدا في تعبيرهم ولا في واقع حياتهم ما يقرب من تلك الاشتراكية النابعة من ضمير الإيمان، والتي يجعلها الإسلام دينا يقرن - في الدعوة إليه - بالصلاة وشهادة التوحيد، والتي يكون بها كل المال ملكا للأمة، تحفظه اليد المستخلفة فيه وتنميه، ثم تنتفع به كلها، فهو منها كلها، وهو إليها كلها، وما اليد المعطية واليد الآخذة إلا يدان لشخصية واحدة، كلتاهما تعمل لخدمة تلك الشخصية، ولا خادم ولا مخدوم، وإنما هما خادمان لشخصية واحدة هي "شخصية المجتمع" الذي لا قوام له ولا بقاء إلا بتكافل هاتين اليدين على خيره وبقائه.
ولعل بهذا يظهر معنى "الوسطية" التي حل بها الإسلام المشكلة المالية، تلك المشكلة التي ظل بها العالم، في أمسه وحاضره، يتردد بين طرفي الإفراط بالطغيان المالي، والتفريط بإالغاء الملكية الفردية، وبذلك تقطعت أواصر الرحم الإنساني، وسخر الأغنياء الفقراء، وثار الفقراء على الأغنياء، ونشبت الحروب المدمرة، وأفلست دعاوى المدعين الذين يخدمون أنفسهم في واقع الأمر، ويتظاهرون بخدمة المجتمع الإنساني "وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة 74).
هكذت تميزت فلسفة الإسلام في الثروات والأموال، وهكذا امتازت على الفلسفات الاجتماعية الأخرى، تميزت وامتازت بالوسطية الجامعة بين ملكية الله للأموال، واستخلاف الناس في هذه الأموال، وفق ضوابط عقد وعهد الاستخلاف، فبرئت من غلول الإفراط والتفريط.
والآن، وبعد سقوط الشيوعية، وبعد أن دخلت الرأسمالية المتوحشة بالاقتصاد العالمي نفقا مظلما لن تخرج منه سالمة، فهلا بعثنا فلسفة الإسلام هذه، وألقينا عليها الأضواء؟!