كلما رحل رفيق حرف أسمع صوت المبدعة الكبيرة، فيروز ينشد: «راحوا.. مثل الحلم.. راحوا..» وأموت قليلا.
يرحلون، لكنهم يقيمون في كتبهم. بوسع المرء استحضار أرواحهم وهو يقرأ إبداعا تركوه كما فعل ياسين رفاعية ومطاع صفدي، أو لم يتركوا كتابا لكنهم أدوا دورا كبيرا في بلورة كتب الآخرين وفكرهم «كالبيك البروليتاري» منح الصلح، وكسامي الكعكي البيروتي الذي رحل منذ أسابيع.
وقفتي اليوم ستكون مع ثلاثة مبدعين راحلين راحوا مثل الحلم. وأبدأ بالأديب الراحل ياسين رفاعية، أول من نشر لي حرفا.
ياسين رفاعية السوري (البريطاني!)
لن أنسى أن ذلك المبدع الشامي، كان يقدر أبجدية الآخر، وحين أطلعته منذ ألف عام على نص أدبي لي وكان هو المشرف على الصفحة الثقافية في جريدة «الأخبار» الدمشقية، نظر إليّ كمن ينظر إلى جنية غادرت القمقم للتو وقال لي: أنت موهوبة حقا وسأنشر القصة.. وكانت أول ما نُشر لي.
وبدأت حكاية أبجدية طالت والأديب السوري ياسين رفاعية ليس أول من نشر لي فحسب، فهو أولا ذلك الكاتب المبدع الذي أصدر الكثير من الروايات والقصص القصيرة والنصوص، ولكن كتابه «العصافير» هو في نظري أجمل كتبه وأكثرها عمقا، فهو صرخة من أجل الحرية ومحاربة الطغيان.. وكان ياسين أحد السوريين المثخنين بالغربة؛ فقد هاجر للعمل في الصحافة في بيروت فلندن وحمل الجنسية البريطانية، وعاش هناك واشترى بيتا، ولكن عشق العالم العربي غلبه، فعاد إلى بيروت.
فَقَدَ رفاعية ابنته الشابة لينا وزوجته الشاعرة أمل جراح وواجه ذلك كله بشجاعة وبصلابة وقوة إرادة. وأعترف أنني كنت أستمد الشجاعة منه يوم فقدت زوجي.. وهو الذي فقد زوجة وابنة، وصمد.
واسيني الأعرج: لا معصوم بشريا من الموت!
مطاع صفدي، الزميل في «القدس العربي» الذي فقدناه منذ عام، هو مؤسس «مركز الإنماء القومي» ورئيس تحرير «مجلة الفكر العربي المعاصر».
التقيته للمرة الأولى ذات يوم مفصلي من حياتي.. وهو يومي الأول للدخول إلى الصف الجامعي لا كطالبة بل كأستاذة. وأعترف انني كنت خائفة، وتعارفنا في غرفة الأساتذة ولم اقل له شيئا عن خوفي، ولعله حدسه ودعمني بذكاء على نحو غير مباشر.
وطوال عامين كنا نلتقي في غرفة الأساتذة وتدور أحاديثنا حول الأدب والفكر، فهو مفكر كبير أيضا.
مطاع أصدر العديد من الكتب الفكرية والروائية. أما روايته التي كان يحدثني عنها باستمرار فهي «مدينة الأنهر السبعة»، التي يبدو أنه لم يصدرها.. ويعني بها مدينة دمشق. أما «الأنهر السبعة» فهي فروع نهر بردى.. وكان غزيرا يومئذ..
كنت أستأنس بوجوده مثلي في باريس وأنوي الاتصال به وأنسى أن السيد الموت بالمرصاد للذين يغرقون في العمل ويؤجلون المواعيد الودية الأخوية، وذلك يذكرني بالقول الرائع للمبدع واسيني الأعرج: «نحن نخطئ دوما حينما نظن أن الذين نحبهم معصومون من الموت».
رحيل رفاعية خسارة للأدب. رحيل الصفدي خسارة للفكر والأدب معا، أما رحيل سامي الكعكي فحكاية أخرى!.. فهو يشبه الجندي المجهول. قياسا إلى شهرة رفاعية والصفدي. بل انه أحد «الجنود المجهولين» في الثقافة العربية والفكر المعاصر، وأحد الذين نذروا حياتهم إكراما لكتب الآخرين الذين قاموا بتحريرها، وقد رحل عن عالمنا قبل أسابيع..
الكعكي: الجندي الأبجدي المجهول
بيني وبين سامي الكعكي خبز وحبر! ورحيله صدمة لكبار المفكرين العرب؛ فلطالما حرر كتبهم بصفته مدير النشر في «دار الطليعة»، وقد ملأ موقعه على أكمل نحو..
سامي الكعكي لم يؤلف كتابا، لكنه ترك بصماته على كتب الكثير من مشاهير الفكر العربي أمثال محمد أركون وناصيف نصار وخليل أحمد خليل وسواهم كثيرون.
ومنذ ثلاثة عقود، كل كتاب صدر عن «دار الطليعة» مر من بين أصابعه، فهو لم يكن مصحح اللغة العربية او مدقق (الصف) فحسب، بل كان أولا الرقيب الفكري لأخطاء السرعة أو التقصير او الخطأ العلمي.
كتبي كلها منذ ثلاثة عقود مرت أيضا من بين أصابعه. سامي قوة فكرية وطاقة إبداعية كان يليق بها الجسد الأقل هشاشة، ولكن من منا يختار الجسد الذي يرغب في أن يحل فيه ويقطنه؟
المفكر سامي الكعكي كان يجهل فن الدعاية لشخصه، وهاجسه الإخلاص للإتقان والأمانة الأبجدية.. ورحل وحروفي تبكيه كمن فقد صديقا..
وداعا يا سامي… كان يجهل أيضا فن الشكوى. فقد تصادف أن اتصلت به هاتفيا من باريس قبل رحيله بثلاثة أيام، ولم يحدثني عن مدى أوجاعه..
كان يجهل فن (النق) كجهله بفن لعبة الوجاهة وحب الظهور..
وداعا يا رفاق الأبجدية، وكعادتي كلما رحل رفيق حرف أهمس: أنتم السابقون، ونحن اللاحقون!!