قضايا وآراء

السقوط في هاوية العنصرية

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
كتب شخص مصري في موقع "فيسبوك" أن المشكلة ليست في مسلحي سيناء، بل في أهالي سيناء أجمعين، وإن ما يؤخر حسم الجيش هناك أنه لا يزال يفرق بين الإرهابيين المسلحين وبين أفراد المجتمع، وإنه يجب ضربهم جميعا بلا رحمة وتطهير الأرض من كل من يتحرك عليها.

الأسوأ من المنشور هو حجم التفاعل معه، فقد حاز في ساعات قليلة ألف إعجاب وعشرات التعليقات المؤيدة ومئات المشاركات المساندة، وهو ما يعني أنه يعبر عن اتجاه اجتماعي، نتذكر هنا أيضا أغنية الشعبين والربين الشهيرة قبل سنوات.

هذه عينة تبصرنا بمشكلة الفروق العنصرية داخل المجتمعات العربية، وتضعنا أمام حقيقة صارخة لن ينفعنا الهروب منها وهي أن ثمة خللا في المجتمع ذاته، فالحكومة الظالمة لا تستطيع البقاء وتمرير سياساتها دون أن تستند إلى حاضنة شعبية ودون أن تجد تيارا في المجتمع يتبنى رؤاها ويبرر أفعالها..

وإذا كان مثال مصر صارخ الدلالة فإنه لا يمكن حصر الحالة المرضية في بلد دون غيرها، لأن مجتمعاتنا الأخرى ليست بعيدةً عن الإصابة بذات الأمراض التي ربما تكون مستترة في سنوات الرخاء لكن سنوات التمايز والامتحان تفضحها وتخرج أضغاننا.

في مواجهة أمراض المجتمع لا يصلح اعتماد خطاب سياسي يقوم على المجاملة وكلمات مثل الشعب البطل والناس الطيبة المغلوبة على أمرها، إنما يلهمنا منهج القرآن الذي يواجهنا بالحقائق القاسية، فهو يهدف إلى الإصلاح وإحقاق الحق و ينظر إلى الإنسان بأنه فاعل مسؤول عما يصيبه من أزمات سياسية واجتماعية، لذلك لا يتورع عن إدانة أمم وأقوام بأكملهم ووصفهم بالظلم والفسق والفساد: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِم النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"، "فلا تأس على القوم الفاسقين"، "إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين"، " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين"، "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين".

التمييز الطبقي هو الوتر الذي تلعب عليه الأنظمة المغتصبة للسلطة وهو الذي يمنحها الشرعية، وقد أشار القرآن إلى هذه المشكلة الاجتماعية في قصة فرعون: "وجعل أهلها شيعاً"، فالمجتمع إذا كان كتلةً موحدةً متماسكةً فإن من الصعب على الحكومات الظالمة اختراقه وتمرير أجندتها الإفسادية، لكن شيوع التمييز بين طبقات المجتمع على أساس الغنى والفقر أو البداوة والحضر أو المدينة والريف أو الشمال والجنوب أو اسم العائلة أو اللون والجنس فإنه يخلق المناخ الملائم لتفتيت المجتمع وإنجاح المشاريع الانفصالية وتنفيذ المؤامرات الخارجية والناس غافلون.   

التمييز العنصري هو إسقاط ضمني لإنسانية الإنسان وهدم لقداسة بنيانه وفتح للطريق أمام انتهاك حقه وقتله دون تأنيب ضمير: "ليس علينا في الأميين سبيل".

دعونا نحاول مقاربة سيكولوجية القتل، إن ثمة حاجزا روحيا أودعه الله فينا نقدس به الحياة ويمنعنا من إيذاء ذي روح ويعظم في نفوسنا جريمة القتل، لذلك فإن الإنسان الطبيعي لا يتجرأ على القتل في اللحظة الإنسانية المجردة، والإنسان سوي الفطرة يأنف من قتل الطفل أو المرأة حتى لو كانوا من قوم عدو له، لأن الإنسانية بائنة الحضور في هذين الكائنين الضعيفين.

 إذن كيف تحدث كل هذه المذابح المروعة في التاريخ الإنساني التي قتل فيها مئات الملايين؟

كي يستحل الإنسان القتل لا بد أن يطمس في قلبه شعور التعاطف الإنساني تجاه ضحيته، فالطيار أجرأ على القتل من الجندي على الأرض لأن الطيار يرى أهدافا تشبه ألعاب الكمبيوتر ولا يتطلب ارتكاب مذبحة منه أكثر من ضغطة زر، أما الجندي على الأرض فهو يرى ملامح الإنسان واضحة أمامه.

نفس الشيء يحدث حين يتعلق الأمر بمجتمع تعايشه ومجتمع آخر بعيد يصوره الإعلام لك بأنه مركز الشر والإرهاب وبأن سكانه ليسوا أكثر من قبائل بدائية لا تفقه شيئا في الحضارة والتمدن. 

إن الإنسان قبل أن يقتل فإنه يلجأ إلى وضع "تصنيف غير إنساني" لضحيته، ويحاول من خلال هذا التصنيف طمس أي مظهر لإنسانية الضحية كي يسكن ضميره ويجد لنفسه معاذير تحميه من الشعور بالجريمة، وقد يأتي هذا التصنيف من ارتداء نظارة أيديولوجية ترى في الآخرين أغياراً أو أميين يعوقون مصلحة المشروع الوطني أو القومي أو الديني فلا بد من إزاحتهم من الطريق في سبيل تحقيق المصلحة العليا.

في مصر مثلاً سبق ذبح الإخوان في رابعة وصفهم في الإعلام بـ"الخرفان"، وقد وصف الحاخام الإسرائيلي عوفاديا يوسيف العرب بـ"الصراصير"، وفي كتاب "حق التضحية بالآخر" الذي يشرح فصلا مروعا في التاريخ الإنساني وهو إبادة مائة وأربعة عشر مليون إنسان من الهنود الحمر على يد المستعمرين الأوروبيين في أمريكا يشرح منير العكش الآليات النفسية التي اتبعها الغزاة الأوروبيون في إبادة هذه الشعوب.

يذكر الكتاب أن المستعمرين الأوروبيين كانوا يصفون الهنود الحمر بالكلاب الهجينة التي لا تتوقف عن النباح، وبالقمل الذي يفقس من بيوض القمل، وهي نفس العبارة التي استعملها هتلر لتشبيه ما جرى في معسكرات الإبادة النازية بأنه تنظيف قمل، وفي هوليود يصور الهندي الأحمر بأنه عنوان للوحشية التي تؤهله للموت أما الضحية فتصور على الغالب فتاة شقراء جميلة، وقد استمر هذا السلوك في الثقافة الأمريكية في تعاملها مع شعوب العالم المختلفة، ففي أربعينيات القرن الماضي الذي ألقيت فيه القنابل النووية على اليابان وزعت مؤسسة سميثسونيان الثقافية رسالة على المسؤولين الأمريكيين وصفت فيها جمجمة الياباني بأنها متخلفة عن الجمجمة الأنجلو سكسونية بأكثر من ألفي سنة، بينما قال العسكريون الأمريكيون إن الطيارين اليابانيين غير قادرين على التصويب باتجاه الهدف لأن عيونهم مشوهة منحرفة، وكانت غنائم المحاربين الأمريكيين تذكارات تصنع من جثث اليابانيين وعظامهم، وقد نشرت مجلة لايف عام 1944 على غلافها صورة صبية شقراء تبتسم وهي تقف إلى جانب جمجمة يابانية أرسلها إليها خطيبها من الجبهة، أما الشعب الفيتنامي فقد وصفه الجنرال الأمريكي وستمورلند بالنمل الأبيض الذي يكافحه الأمريكي بالمبيدات الحشرية.

بالتأمل في هذا الحشد من الأوصاف والتعبيرات نجدها جميعا تتعمد إسقاط إنسانية الأعداء عبر وصفهم بالقمل أو الصراصير أو النمل الأبيض أو الكائن المتوحش أو الجمجمة المتخلفة أو الكائن مشوه الأعين، وهذا التصوير يسقط التعاطف مع الضحايا ويشرعن قتلهم ويستبيح انتهاك الفظائع بحقهم، فالإبادة لا تبدأ من الفعل المادي بل تبدأ من الإطار الثقافي فإذا عبئت الثقافة بمفاهيم غير إنسانية و تحيزات عنصرية ، وتضخم الشعور بأفضلية الذات ودونية الآخر لم يعد القاتل قادرا على رؤية بشاعة جريمة القتل التي يقترفها لأنه لا يقتل الإنسان مباشرة إنما يستهدف الصورة الذهنية التي رسمها له في مخياله، فيقدم على سفك الدماء والإفساد في الأرض دون أن يثور ضميره: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

إن الجماعات البشرية في سبيل إشباع شعورها بالأفضلية وخدمة نزعتها الاستعلائية في الأرض تقيم جدرانا من التمييز على أساس الطائفة والدين واللون والطبقة وتميل إلى إلحاق الأوصاف التبخيسية بكل من هو خارج دائرتها، هذه الأوصاف تحجب الرابطة الإنسانية، فلا يدور الحديث عن إنسان بل عن هندي أو أفريقي أو فقير أو جنوبي أو يهودي أو شيعي، وبمجرد ذكر أحد هذه الأوصاف تتداعى إلى المخيلة دلالات سلبية تحجب القيمة الإنسانية، جرب أن تقيس تفاعلك النفسي مع خبر يقدم إليك بصيغة: "مقتل إنسان.."، وخبر آخر يقدم بصيغة: "مقتل يهودي..."!

قد يكون اليهودي إنسانا بريئا، لكن الوصف في ذاته تم شحنه بإيحاءات سلبية تفقد القدرة على التعاطف.

التصنيف هو الخطوة الأولى في ثقافة الإقصاء التي قد تنتهي بالإبادة، والثقافة الأخلاقية هي التي تستدعي رابطة الإنسانية وتعزز حق المواطنة والمساواة، فيتوقف الناس عن دعوى الجاهلية ويؤمنون أنهم خلقوا من نفس واحدة وأنهم كلهم بشر ممن خلق وأنه لا يوجد لله أبناء وأحباء، وأن فضل الإنسان باختياره الحر لا بطائفته وطبقته. 
التعليقات (0)