قبل 15 سنة، يتحدث عبد الوهاب المسيري في كتابه الشهير «انهيار إسرائيل من الداخل» عن أن عوامل الأزمة في الكيان العبري آخذة في التفاقم، إلا أنها لن تؤدي إلى انهياره؛ لأن مقومات حياته ليس من داخله وإنما من خارجه، إذ إنه لا يحقق لنفسه الاستمرار من خلال جهد المستوطنين وإنما من خلال الدعم الأمريكي ـ الغربي له، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهذا يتطلب الجهاد ضده حتى ينهار.
بالإمكان أن نضيف على هذا القول، أن الدولة العبرية، دولة مؤسسات، سياسية وفكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية، قد تتراجع في مجال، لتصبح أكثر تطورا في مجالات أخرى، دولة تعتمد على عناصر الديمقراطية الأساسية لتنظيم حياة مجتمعها داخليا، ما يجعلها مقبولة رغم كل شيء من المجتمع الدولي الرسمي، نجحت في تسويق نفسها كدولة أكثر ديمقراطية من كل محيطها العربي، دولة القانون بحيث يرزح عدد من قادتها وساستها في السجون، دولة نموذجية وسط أجواء محيطة متخلفة وسلطوية وديكتاتورية، لهذا فإن عوامل انهيارها لأسباب داخلية أمر بعيد الاحتمال، إن لم يكن من المستحيلات!
إلّا أن التوقف عند هذه العناصر الواضحة تماما، للوصول إلى أن إمكانية انهيارها من الداخل مستحيلة، تبقى رؤية أحادية الجانب، وتلغي رؤية التفاصيل والمؤثرات التي تبدو هامشية، يقال إنها دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، وهذا غير صحيح، ليس فقط انها غير ديمقراطية بالنسبة «لمواطنيها العرب» ولكن، أيضا، هي دولة تبقي فئات وشرائح من مواطنيها اليهود، خارج إطار العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. التمحص في أوضاع هذه الفئات المهمشة يجعل الحديث عن ديمقراطية الدولة العبرية، حتى في حدود يهودها، أمرا مشكوكا فيه بالتأكيد، وقد كتب وقيل الكثير عن هذا الأمر، إلّا أن الدولة العبرية، مع ذلك، استمرت من دون أن يشكل هذا الاطار غير العادل سببا لملاحظة تراجع مدى ديمقراطيتها، ولم يشكل ذلك أي خطر حقيقي على وجودها رغم استفحاله، إلّا أن تأثيره يظل محدودا في إطار الدولة القوية التي تبدو من الخارج أكثر عدالة وأمنا!
في سنوات وعقود ماضية، كانت هناك حكومات قوية، ومعارضة قوية في إسرائيل، ظل هذا التوازن يعبر عن قوة النظام السياسي في الدولة العبرية، إلّا أن تراجع قوى اليسار وقوى المعارضة، وتهميش القوى السياسية الليبرالية في السنوات الأخيرة، أدى إلى الإخلال بهذا التوازن الذي كان أحد أهم الصفات الأساسية للنظام السياسي في إسرائيل.
انتصار اليمين الليبرالي، واليمين الديني ووصوله إلى الحكم في السنوات الأخيرة، هيمن على مؤسسات الدولة العبرية، وأضعف من قوى المعارضة فيها، المجتمع الإسرائيلي بات أكثر تطرفا وعنصرية، ليس بالنسبة للعرب فقط، بل بالنسبة إلى فئات مجتمعية يهودية، مع ذلك، فإن اليمين الإسرائيلي مازال يحاول السيطرة على كل عناصر الدولة والنظام السياسي، إلاّ أنه مازال يرى أن هناك عددا من العناصر، لا تزال خارج إرادته وتحكمه: وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية ومحكمة العدل العليا وقيادة الجيش والوظائف الحكومية (ألوف بن ـ «هآرتس» ـ 23/2/2017)، هذه مراكز قوة لها الكثير من التأثير على الحد من سطوة حكومات اليمين الائتلافية، من هنا كان الصراع على وسائل الإعلام وتعيين المفتش العام للشرطة والمستشار القانوني للحكومة، وتعيين القضاة الجدد في محكمة العدل العليا، اليمين الإسرائيلي لا يقبل بأن يترك شيئا مهما كان محدودا يخفف من مدى سطوته وسيطرته المطلقة، لهذا فإن ظواهر الصراع الداخلي في الأشهر الأخيرة، أخذت منحى تنظيف النظام السياسي من شوائب بقايا اليسار الهش، بالمقاييس الإسرائيلية طبعا.
لنأخذ الاستيطان نموذجا، ذلك أنه يبدو وكأنه في مواجهة مع الفلسطينيين، وهذا صحيح، إلّا أنه ليس صحيحا تماما، إذ إن هذه المستوطنات هي مستوطنات اليهود الأكثر يمينية وتطرفا، بشكل عام، وهي ميدان صراع داخلي يتعلق بهُويّة الجمعيات الإسرائيلية، ليس ككيان يهودي كما تشير حكومة نتنياهو فحسب، بل يهودي يميني فاشي، يمنح قوى اليمين العنصرية، من خلال صناديق الاقتراع، الاستمرار أكثر قوة في الحكم، وهذا بدوره يؤدي إلى التشريعات والقوانين الأكثر عنصرية وفاشية، ليس ضد العرب في الداخل والخارج فحسب، بل ضد الفئات الاجتماعية اليهودية الأكثر تهميشا، من هنا، فإن هناك صراعا متأجّجا في الأيام الأخيرة حول «القضاء الإسرائيلي» محاكم وقوانين ومحكمة عليا، يهود في الغالب المبدأ الأساسي للفصل بين السلطات؛ لأن حكومة اليمين الإسرائيلي تريد القضاء أداة لتنفيذ قرارات السلطة التنفيذية، الهرم معكوس في هذه النظرية!!