فيما يلي البيان الرسمي الذي أصدرته الشرطة الإسرائيلية في السادسة وخمسين دقيقة من صباح الثامن عشر من يناير، بعد ساعة واحدة من مقتل مواطنين إسرائيليين- هما يعقوب أبو القيعان، أحد السكان المحليين ومدرس ثانوي، ورقيب في الشرطة اسمه إريتز ليفي- قتلا أثناء عملية هدم منازل في قرية أم الحيران البدوية جنوب إسرائيل: "وصلت قوات الأمن هذا الصباح إلى قرية أم الحيران في مهمة لإنفاذ أحكام القانون. وما أن وصلت القوات حتى انطلقت سيارة مسرعة تعود ملكيتها إلى إرهابي، هو أحد السكان المحليين وعضو في الحركة الإسلامية، باتجاه عناصر الأمن بنية القيام بهجوم من خلال عملية دهس. فتم تحييد الإرهابي... وهذا الإرهابي ناشط في الفرع الجنوبي للحركة الإسلامية ويجري الآن التحقيق في ارتباطاته بتنظيم الدولة... تدعو الشرطة الإسرائيلية المجتمع البدوي إلى لفظ بذور الأيديولوجيات المتطرفة والتي يقتصر مجال تفكيرها على الإرهاب. يعمل الإرهابي (أبو القيعان) في النظام التعليمي حيث يعتبر نفوذه أخطر بعشرات المرات من سواه".
بعد أقل من ساعتين على وفاة أبو القيعان لم تترك رواية الشرطة مجالاً للشك أو حاجة لمزيد من التحقيق: فقد حوكم الرجل البالغ من العمر خمسين عاماً وصدرت إدانة بحقه على اعتبار أنه إرهابي، وربما عضو في تنظيم الدولة الإسلامية، ومعلم أساء استخدام موقعه لنشر الأيديولوجيا المتطرفة.
رواية ملفقة
سرعان من جرى تبنى هذا الحكم الجائر على أبي القيعان، وكان في مقدمة من تبنوه رئيس الشرطة الإسرائيلية روني الشيخ، والذي خاطب الجمهور أثناء جنازة ليفي قائلاً إن أبا القيعان كان يعمل مدرساً في مدرسة تم فيها القبض على ستة من المدرسين بعد "تفضيلهم تدريس أيديولوجية داعش".
بعد الحادثة، أعلنت الشرطة أنها وجدت داخل منزل أبي القيعان نسخاً قديمة من صحيفة "إسرائيل اليوم"، المؤيدة بشدة للحكومة والممولة من قبل الصديق الشخصي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شيلدون أديلسون، وقدمت ذلك على أنه دليل مادي على تعاطف أبي القيعان مع داعش لأن أعداد الصحيفة اشتملت على تقارير تتحدث عن هجمات قامت بها المجموعة.
بل وذهب إلى أبعد من ذلك وزير الأمن الداخلي جلعاد إردان، وهو عضو في حزب الليكود الحاكم، حين حمل المسؤولية عن "الهجوم الإرهابي" الذي أدين به أبو القيعان إلى أيمن عوده، رئيس حزب القائمة المشتركة الذي جاء للتعبير عن تضامنه مع الناس في أم الحيران. ولم تلبث معظم، إن لم يكن جميع، وسائل الإعلام الإسرائيلية أن سارت على نفس النهج واصفة حادثة أم الحيران بالهجوم الإرهابي. وبدا كما لو أن آلة الدعاية الإسرائيلية كانت تعمل على خير ما يرام.
حرائق الدعاية
كانت نفس آلة الدعاية هذه تعمل قبل شهرين حينما كانت الحرائق تلتهم إسرائيل. في ذلك الوقت وجه إيرغان وغيره من مسؤولي الدولة، بما في ذلك نتنياهو نفسه، أصابع الاتهام إلى الفلسطينيين، واصفين الحرائق بأنها هجمات إحراق "إرهابية" متعمدة ومنسقة.
في الأيام القليلة الأولى، تعاونت وسائل الإعلام مع الحكاية التي سردتها الحكومة، بل لقد عمد موقع واي نيت الإخباري، وهو أكثر المواقع الإخبارية شهرة وشعبية في إسرائيل، إلى تبنى شعار يتكون من عبارة "انتفاضة الحرائق" وفي الخلفية صورة ألسنة لهيب حمراء.
كان الهدف من هذه الحملة الدعائية المركزة والموجهة غاية في الوضوح: ألا وهو تصوير الأقلية الفلسطينية في إسرائيل كما لو كانت "عدواً من الداخل". بدت تلك إستراتيجية ناجعة بالنسبة لنتنياهو حينما حذر مؤيديه عبر رسالة مرئية بُثت في منتصف اليوم الأخير من الانتخابات من أن العرب "يقبلون على مراكز الاقتراع بكثافة". هناك من يجادل فيما إذا كانت تلك الرسالة الخطيرة قد أكسبته الانتخابات، ولكن من المؤكد أنها لم تضره قط.
ولكن في نهاية المطاف لا الحملة المتعلقة بالحرائق ولا الحملة الخاصة بأم الحيران أثبتت نجاعتها. فبعد أكثر من شهرين من موجة الحرائق، لم يتم اتهام شخص فلسطيني واحد حامل للجنسية الإسرائيلية بإشعال الحرائق، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين والصحفيين اليمينيين مازالوا يصرون على أن الحرائق لم تكن عفوية، إلا أن معظم وسائل الإعلام الآن تعتبر بأن الادعاء بأن الحرائق كانت جزءاً من هجوم إرهابي مجرد ادعاء باطل. وبذلك لم تفلح بذور التحريض التي زرعها إيردان وغيره في الإيتاء بالثمار التي كانت مأمولة منها.
وأما فيما يتعلق بأبي القيعان، فقد كان ما طرأ من تبديل على المقاربة حدثاً دراماتيكياً جداً، حيث يبدو أن نتائج تحقيقات وحدة التحقيق في جهاز الشرطة، والتي لم تنشر بعد بشكل رسمي ولكن سربت إلى وسائل الإعلام في وقت مبكر من هذا الأسبوع، تؤكد ما لبثت تصر عليه عائلة أبي القيعان وكذلك جيرانه والعشرات من النشطاء الإسرائيليين من العرب واليهود من زعم بأن رجال الشرطة أطلقوا النار على سيارة أبي القيعان قبل أن تنطلق مسرعة وقبل أن تشكل أي خطر على أي منهم، وبأن أبا القيعان لم تكن لديه أي نوايا لدهس أي من رجال الشرطة وبأنه لم يكن على علاقة بأي منظمة إرهابية، سواء داعش أو غيرها.
الشرطة موضع الاتهام
والآن، بدلاً من أن يكون أبو القيعان هو المتهم، فقد باتت الشرطة هي المتهمة بتلفيق الدليل حول ما جرى في أم الحيران – أو حتى من خلال ممارسة الكذب العمد على وسائل الإعلام. لم يقتصر الدور في تسليط الضوء على ما جرى من أحداث متعاقبة على بعض وسائل الإعلام البديل مثل مجلة +972 أو أكتيفستيلس، بل تجاوز ذلك إلى وسائل الإعلام الرئيسية.
بل بلغ الأمر ببعض نشطاء التيار اليميني المعروفين المبادرة بالاعتذار طواعية إلى عائلة أبي القيعان على اتهامه زوراً وبهتاناً بالإرهاب. ونشرت مختلف وسائل الإعلام تقارير تطالب إيردان والشيخ بالاعتذار أو حتى بالاستقالة. هم الآن يقولون بأنهم "ينتظرون" الاستنتاجات النهائية لتحقيقات وحدة التحقيق في جهاز الشرطة، ولكن ليس مستبعداً أنهم سيجدون أنفسهم في نهاية المطاف مضطرين إلى دفع ثمن ما.
ما فعلته الشرطة في أم الحيران لم يفاجئ ثابت أبو راس، المشارك بفعالية في النضال من أجل حقوق البدو في إسرائيل والرئيس المشترك لصندوق أبراهام، المنظمة غير الحكومية التي تعمل على الترويج لعلاقات أفضل بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب في إسرائيل. ويقول أبو راس إن ضباط الشرطة شاركوا في المفاوضات الخاصة بمصير القرية التي كان سكانها قد نقلتهم دولة إسرائيل ليقيموا هناك قبل ما يقرب من ستين عاماً بعد أن تم إخلاؤهم من قريتهم الأصلية.
وبحسب ما يقوله أبو راس فإن ضباط الشرطة هؤلاء هم الذين رفضوا التوقيع على البيان الذي تم التوافق عليه بين السكان المحليين ومسؤولين حكوميين مدنيين آخرين، وهو البيان الذي كان سيسمح لأهالي أم الحيران ببناء قرية جديدة لا تبعد كثيراً عن الموقع الحالي.
يقول أبو راس إن الشرطة فضلت الهدم بالقوة على التسوية السلمية لأن التسوية كان يمكن أن تشكل "نموذجا سيئا" حسب ظنهم لحالات أخرى صدر فيها أوامر هدم ضد سكان من البدو. ويذكر أبو راس بأن أبا القيعان كان رابع بدوي تقتله الشرطة خلال العامين الماضيين، ولم تتخذ أي إجراءات ضد أي من رجال الشرطة في أي من هذه القضايا حتى الآن. ويبدو أن حادثة مقتل أبي القيعان ستمضي دون محاسبة أو مساءلة أيضا.
احتجاجات تضامنية
على الرغم من هذه الصورة الكالحة إلا أنه يمكن استخلاص بعض الدروس والعبر من قصة أبي القيعان. ومن أهمها أن المجتمع البدوي في إسرائيل، والمجتمع الفلسطيني ككل، تمكن من إجبار الرأي العام في إسرائيل على تغيير موقفه – وهو إنجاز غير يسير إذا ما أخذنا بالاعتبار كم انحرفت إسرائيل نحو اليمين.
يذكر أن أحداث أم الحيران، والتي جاءت بعد أيام قليلة فقط من هدم أحد عشر منزلاً في قرية قلنسوة الفلسطينية في وسط إسرائيل، كانت المحفز على تنظيم الأقلية الفلسطينية لمظاهرة احتجاجية ضخمة لم ينظم مثلها من حيث الحجم منذ سنين طويلة.
والملاحظ أن قطاعات كثيرة من المجتمع الإسرائيلي شاركت في التظاهرة الاحتجاجية. كما تواجد أثناء عمليات الهدم في أم الحيران العشرات من النشطاء اليهود، وهؤلاء ساعدوا بما وثقوه من تدوين لمجريات الأمور في تحدي الرواية الإسرائيلية للأحداث. ثم شارك خمسة آلاف متظاهر في مسيرة حاشدة في تل أبيب كانت واحدة من أضخم المسيرات التضامنية التي نظمت خلال السنوات الأخيرة بالاشتراك مع الأقلية الفلسطينية. ولعل هذه المشاركات بالإضافة إلى بعض الأوساط التقدمية داخل وسائل الإعلام الإسرائيلية قد ساعدت في قطع الطريق على الهجوم الذي شنه إيردان ونتنياهو ومن على شاكلتهما.
لا يعني هذا أن الأخطار التي تتهدد الأقلية الفلسطينية في إسرائيل قد تلاشت. بل ما يزال أحد أهم أهداف الحكومة الحالية في إسرائيل هو نزع الشرعية عن القيادة السياسية لهذه الأقلية. بل لازال هدم البيوت يستخدم أداة عقابية ضد الفلسطينيين في كافة أنحاء إسرائيل، وما تزال الحكومة ترفض الاعتراف بحق البدو في العيش في أراضي آبائهم وأجدادهم.
إلا أن الأقلية الفلسطينية أثبتت، كما حصل في أم الحيران وقبل ذلك في موجة الحرائق، أنها قادرة على خوض نضال مدني فعال، وهو نضال أكثر "إيجابية" كما يصفه أبو راس. وقد يثبت من الطريقة التي تهاوت فيها الاتهامات التي لفقت لأبي القيعان بأن مثل هذا النضال المدني الذي يخوضه الفلسطينيون يشكل أكبر تحد تواجهه الحكومة اليمينية في إسرائيل.