الشرق الأوسط أحد أبرز التحديات للسياسة الخارجية الأميركية. وضع الرئيس دونالد ترامب محاربة الإرهاب في سلم الأولويات. أي إن الحرب على «داعش» في الموصل والرقة هي الهدف الأول. تترافق هذه الحرب مع نذر مواجهة مع إيران التي صنفتها الإدارة الجديدة أبرز دولة راعية للإرهاب، وعنصر زعزعة للإقليم، وتشكل تهديدا للأمن العالمي، ونالت سيلا من التحذيرات بعد حزمة من العقوبات.
هدف واشنطن تقليص مناطق انتشارها ونفوذها في الإقليم؛ من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. وتشكل هذه المواجهة الامتحان الأقسى للسياسة الجديدة للولايات المتحدة؛ فهي أكثر تعقيدا من تحرير أراضي «دولة الخلافة»، فهنا ثمة إجماع إقليمي ودولي على استئصال هذه الدولة، سواء قام التعاون بين واشنطن وموسكو والمعنيين الآخرين أو تأخر وغاب؛ فما لا يغيب عن حسابات اللاعبين في المشرق العربي أن مآل هذا الاستئصال لا يعني بأي حال نهاية للصراعات التي تنهش بلاد الشام وأرض الرافدين.
تحرير الموصل والرقة لا يحرر البلدين الجارين من العنف والصراعات، ولا يفتح باب الاستقرار على مصراعيه، بقدر ما يفتح الباب أمام توازنات جديدة في الحروب القائمة بين مكونات هذين البلدين ورعاتها الخارجيين، ويؤشر إلى مستقبل الحضور الإيراني في المشرق العربي كله.
إدارة الرئيس ترامب بعثت بإشارات واضحة في شأن اليمن، لن تقبل بتهديد أمن شبه الجزيرة العربية، ولن تسمح بعرقلة الملاحة في البحر الأحمر وعبر باب المندب، وأرسلت قوة بحرية لترجمة هذا التوجه. ولم يتوان أهل «عاصفة الحزم» عن مواصلة عملياتهم العسكرية للسيطرة على مرافىء يستخدمها الإيرانيون لمد الحوثيين بالسلاح والعتاد والمقاتلين، وعمدت دولة الإمارات إلى إقامة قاعدتين عسكريتين كبيرتين في ميناء عصب الأريتري وفي ميناء بربرة التابع لـ «جمهورية أرض الصومال».
تبدل المشهد عما كان قبل نحو ثلاث سنوات؛ كانت الجمهورية الإسلامية تتمتع بتسهيلات وحضور في أرض السودان الذي سرعان ما طوى تلك الصفحة وانخرط في التحالف العربي، وسيساهم قيام القاعدتين في إحكام الطوق على الممرات المائية في المنطقة وعلى المنافذ البحرية اليمنية، ويؤدي تاليا إلى مزيد من الإضعاف العسكري لـ «أنصار الله» وحلفائهم؛ فكلما ضاقت السبل واُقفلت أبواب تهريب السلاح إلى صنعاء وصعدة، تقدمت مساعي التسوية التي يفترض أن ترفع أيدي طهران عن هذا البلد.
حال التحالف العربي حتى الآن دون سقوط اليمن في أيدي إيران، وهو مصمم على ألا يستأثر الحوثيون ومليشياتهم وحلفاؤهم بتقرير مصير بلادهم دون الشرعية وباقي المكونات؛ لذلك لا تشكل الحرب الدائرة جنوب شبه الجزيرة العربية ساحة الصراع الكبرى بين طهران وواشنطن، وهما لا ترغبان حتما في حرب ميدانية وإن ضاعف «الحرس الثوري» تجاربه الصاروخية، أو مناوراته العسكرية كتلك التي تجري اليوم وسط البلاد. مسرح المواجهة يمتد من بغداد ودمشق إلى بيروت. هنا يتقرر مستقبل النفوذ الإيراني. مآل الأزمة في سوريا وموازين القوى وخريطة الديموغرافيا والمكونات المتعددة، والتحالفات الإقليمية والدولية، لا تشي بأن الجمهورية الإسلامية ستكون لها الغلبة والكلمة الفصل في مسار التسوية ومستقبل بلاد الشام تاليا. روسيا حاضرة بقوة. والعرب حاضرون من الأردن إلى أهل الخليج.
وكذلك تركيا التي أظهر تفاهمها مع موسكو حتى الآن، في أثناء سقوط حلب ثم في اجتماعات أستانة، أن لها باعا طويلة في فرض وقف النار، وفي بدء رسم خطوط التسوية. وعززت جولة الرئيس طيب رجب أردوغان على السعودية والبحرين وقطر نفوذ أنقرة وعواصم خليجية قدرتها على رفع التحدي بوجه الجمهورية الإسلامية.
ولا يقل حضور الولايات المتحدة أهمية، سواء عبر فصائل «الجبهة الجنوبية» التي رعاها البنتاغون بالمال والسلاح والتدريب، أو عبر فصائل أخرى كردية وعربية تعدها للمشاركة في تحرير الرقة. وإذا قيض لها التفاهم مع تركيا وروسيا في إدارة الحرب لطرد «داعش» من هذه المدينة، ستكون لها كلمتها في إعادة تصويب صورة التسوية السياسية لأزمة سوريا، فضلا عن، ذلك لا يمكن تغييب حضور إسرائيل المعنية بحدودها الشمالية، فإذا كانت تحرص على إبعاد «الجهاديين» عن هذه الحدود، فإنها معنية أيضا بألا تصبح جبهة جنوب لبنان واحدة مع جبهة الجولان، وحريصة على ألا ترابط الجمهورية الإسلامية على طول هاتين الجبهتين.
هذه القوى التي تتزاحم في الساحة السورية، وتتسابق على أقتسام جلد الرقة، تفرض على إيران إعادة النظر في حساباتها وشبكة تحالفاتها، من بغداد إلى بيروت مرورا بدمشق. وهي تدرك مدى ترابط هذه الأزمات من شمال جبال زاغروس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وزيارة الرئيس حسن روحاني لكل من سلطنة عمان والكويت تندرج في إطار مساعي طهران المتوجسة من توجهات إدارة ترامب، إلى فتح نافذة في الطوق المضروب عليها خليجيا، ولكن يصعب أن تكون هذه الجولة حققت أهدافها؛ فليست المرة الأولى التي تحاول فيها الجمهورية طرق أبواب جيرانها.
بالطبع الكويت معنية مباشرة أكثر من شقيقاتها في مجلس التعاون بقيام حوار بناء مع جارتها الشرقية؛ فهي تقيم على خط النار والمواجهة، وحالها أشبه بما كانت عليه ألمانيا أيام الحرب الباردة، وهي على تماس مع جار شرقي كبير تتصارع فيه القوى السياسية ويحتضن «حشدا شعبيا» من مليشيات يديرها «الحرس الثوري». لكن ذلك لم يمنعها من تكرار لازمة وجوب رفع طهران يدها عن «العواصم» التي تباهت بأنها باتت تشكل جزءا من امبراطوريتها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها، مدخلا إلى أي حوار وعلاقات طبيعية مع جيرانها في المقلب الثاني من الخليج. وتندرج في الإطار نفسه تصريحات الرئيس ميشال عون عن «حزب الله».
ثم إبداء الحزب استعداده لالتزام وقف النار في سوريا ودعوته اللاجئين من أهل القلمون إلى العودة. وأخيرا خطاب زعيمه السيد حسن نصر الله ورفعه وتيرة تهديداته لإسرائيل، وتجديد حملته على دول خليجية خصوصا السعودية العائدة إلى الساجة اللبنانية. وبقدر ما يبدو هذا الخطاب عالي النبرة، ردا على تهديدات تل أبيب، إلا أنه يبدو مسكونا بما قد تخبئه الأيام المقبلة؛ فليس سرا أن انهاء وجود الحزب في سوريا مطروح على طاولة البحث.
وإذا كان لا بد من عودته إلى الداخل اللبناني، فلن يجازف بألا تكون بلا بمقابل في هذا الداخل، إذا تعذر عليه الحفاظ على مواقع سياسية وعسكرية حيث هو الآن.
يظل العراق المنصة الأكثر ثباتا والخيار المتاح أمام إيران لتخوض المواجهة مع خصومها، خصوصا الولايات المتحدة. إنه ورقة ضغط بيد طهران مثلما هو ورقة ضغط بيد خصومها. بل لعل ما تملكه من أدوات يرجح كفتها على الآخرين؛ فهي حاضرة في كل مكان من أرض الرافدين عبر قوى موالية ومليشيات تبدو أكثر قوة من أي مليشيات قد يعتمدها خصومها في المواجهة.
الجميع يسابقون الوقت بانتظار نهاية معركة الموصل التي يبدو أنها ستتقدم على تحرير الرقة، والنهاية مسألة وقت. وقد دل التفجير الإجرامي الأخير للتنظيم الإرهابي في بغداد على عودته إلى أسلوبه القديم؛ فهو يعرف أنه لم يعد بمقدوره الحفاظ على «دولة الخلافة» والبقاء في ثاني أكبر مدن العراق. وما يؤخر زخم العمليات العسكرية لاستكمال تحرير المدينة، ليس انتظار تحسن أحوال الطقس فقط. العقدة أولا وأخيرا تتعلق بالاتفاق على «اليوم التالي» على دحر «داعش». تتعلق أساسا بالموقف الأمريكي، الطرف الحاسم في تقرير مصير المعركة. وقد طرأ عليه أخيرا التوجه الجديد لسياسة واشنطن. مثلما يتعلق بمآل الصراع المتفاقم بين القوى السياسية.
رئيس الحكومة حيدر العبادي قد يكون أكثر المستعجلين حسم المعركة. لقد استنفد مرحلة السماح الطويلة وانشغال الجميع بالحرب. نجح في إقامة نوع من التوازن في علاقة بغداد بكل من واشنطن وطهران، وكان تصريحه الأخير بنأي بلاده عن الصراعات الخارجية، إقليمية ودولية، أثار حفيظة إيران التي لم تعتبره يوما «وفيا» ومطواعا كما كان سلفه نوري المالكي؛ خصوصا أنه نجح في إعادة ترميم المؤسسة العسكرية بمساعدة الولايات المتحدة، وقد سعى أخيرا إلى استكمال المواقع الشاغرة في حكومته؛ الدفاع والداخلية والمال. كل ذلك في إطار الاستعداد للانتخابات المقبلة. هذا الاستحقاق والمعركة الدائرة لتغيير قانون الانتخاب والمفوضية العليا للانتخابات، يستأثران بالحراك السياسي المتصاعد. مثلما تتصاعد حمى الاتصالات من أجل قيام تحالفات تضمن الأكثرية لهذا الطرف أو ذاك.
وتتفاقم معها الانقسامات، في صفوف القوى الشيعية والسنية والكردية على السواء. لم تعد الأولوية للاتفاق على «التسوية السياسية»، الترياق الموعود علاجا ناجعا لمجمل الأزمات التي تواجه العراق ونظامه السياسي، ولمواجهة تداعيات مرحلة ما بعد تحرير الموصل، وسبل إدارة المحافظات الغربية والشمالية.
قدم «التحالف الوطني» للقوى الشيعية مبادرته، وأنهى «اتحاد القوى العراقية» السنية قبل أيام وضع رؤيته للتسوية وسيرفعها إلى بعثة الأمم المتحدة. وثمة بون واسع بين رؤيتي الطرفين. ناهيك عن موقف الكرد الذين لم تتخل كتلتهم الأكبر عن مطلبها في الاستفتاء على الاستقلال. في مثل هذه الأجواء المشحونة ستفتح نهاية معركة الموصل أبواب المواجهة بين القوى العراقية، وعبرها بين واشنطن وحلفائها من تركيا والعرب من جهة وطهران من جهة أخرى. إنها محطة مفصلية في تاريخ العراق وسورية وحتى لبنان. فإذا لحق بالمدينة ما حل بالرمادي والفلوجة من قبل، يعني ذلك أن الحروب الأهلية في الإقليم لن تعرف نهاية قريبة، وأن المواجهة مع الجمهورية الإسلامية مفتوحة في بغداد ودمشق وبيروت.