لم تكن الاتهامات الباطلة التي وجهتها أذرع الثورة المضادة لأول رئيس مدني منتخب في مصر وهو الدكتور محمد مرسي -حول نواياه بالتنازل عن أجزاء من سيناء للفلسطينيين لتوسيع قطاع غزة - قادرة على الصمود في وجه أبسط مناقشة موضوعية، لكن امتلاك الثورة المضادة وهيمنتها على غالبية وسائل الإعلام المؤثرة مكنها من تسويق فريتها بحق الرئيس مرسي على الكثير من البسطاء.
كما تحولت بعض الأكاذيب بحق الرئيس مرسي إلى اتهامات جنائية له بالتخابر مع حركة حماس التي لم تتوقف سلطة الانقلاب عن التعاون معها واستقبال قادتها حتى قبل أيام قليلة، وتشاء الإرادة الإلهية أن تتحول تلك الأوهام والأكاذيب التي جرى إلصاقها بالرئيس مرسي إلى حقائق مثبتة بحق قائد تلك الثورة المضادة وانقلابها العسكري، لا يقوى على دحضها أحد.
في الأيام الأخيرة تجمعت أكثر من واقعة تؤكد خيانة السيسي لوطنه وعمالته للصهاينة، بدءا من تنازله عن حصة مصر التاريخية في مياه النيل وحقول غاز المتوسط ثم التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير وأخيرا التمهيد للتنازل عن جزء آخر من أرض سيناء، وهي وقائع كافية لمحاكمته جنائيا بتهمة الخيانة العظمى، وإنهاء حكمه فورا، وهو ما سيتم يوما ما، طال الزمن أم قصر.
لم تكن المكالمة المسربة لسامح شكري وزير خارجية السيسي مع المستشار القانوني لرئيس الوزراء الإسرائيلي، والتي بثتها قناة مكملين مؤخرا هي الدليل الأول ولن تكون الدليل الأخير على خيانة السيسي وعمالته، لكنها كانت فاضحة إلى حد بعيد المدى الذي وصلت إليه تلك العمالة، فالوزير شكري يراجع مع إسحاق مولخو المستشار القانوني لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنود صفقة التنازل عن تيران وصنافير كلمة كلمة، بل حرفا حرفا، ويمحو ويكتب ما يطلبه منه المستشار الإسرائيلي.
والأكثر من ذلك أن الوزير المصري يؤكد للطرف الآخر أن مصر لا يمكن أن تقر الاتفاق نهائيا قبل رضا إسرائيل الكامل عنه، يحدث كل ذلك بينما كانت المعارضة الشعبية للتنازل عن الجزيرتين تتصاعد، سواء في شكل مظاهرات مثل مظاهرة يوم الأرض 15 إبريل أو التي تلتها يوم 25 إبريل والتي منعتها السلطات بالقوة، أو في شكل تحرك قضائي نجح في إبطال مشروعية عملية التنازل.
وفي الوقت الذي وحدت فيه قضية الجزيرتين القوى الوطنية المصرية مجددا على هدف واحد هو التصدي لعملية التنازل عنهما، كان نظام السيسي مرتميا في الحضن الإسرائيلي الدافئ، ملبيا كل مطالبه وأمنياته فيما يخص نقل الجزيرتين من السيادة المصرية شكليا للسعودية لتصبح المياه المحيطة بهما مياه دولية وليست مياه مصرية خالصة، ولتتحكم إسرائيل بشكل تام في الإدارة الأمنية للمر المائي وللجزيرتين، وقبل تلك المكالمة المسربة كانت الخيانة ثابتة ضد السيسي بحكم المحكمة الإدارية العليا الرافض للتنازل عن الجزيرتين، والذي وصف التنازل عنهما بالخيانة.
وأغلب الظن أن السيسي لن يحترم حكم القضاء (المحكمة الإدارية العليا) وسيستخدم كل الأساليب لتمرير صفقة الخيانة، سواء عبر البرلمان أو عبر المحكمة الدستورية، أو حتى عبر قرار إداري منفرد منه، لأنه ببساطة قبض الثمن مبكرا وهو دعم انقلابه العسكري سياسيا وامنيا وماليا، وإبقائه على رأس السلطة حتى الآن.
في أقل من أسبوع عقب تسريب تلك المكالمة الخطيرة، كتب الوزير الإسرائيلي أيوب قرا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيتبنيان في اجتماعهما في واشنطن الأربعاء 15 شباط/ فبراير 2017 خطة عبد الفتاح السيسي الخاصة بإقامة دولة فلسطينية في سيناء وقطاع غزة، وهذه الخطة حسب تسريبات سابقة تقضي بتوسيع قطاع غزة بمساحة 1600 كم من أراضي سيناء المجاورة، والهدف هو إقامة الدولة الفلسطينية عليها بعيدا عن أراضي فلسطين التاريخية التي ترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي التنازل عنها، ونظرا لأن تصريح الوزير الإسرائيلي سبب حرجا سياسيا لحكومته مع صديقها السيسي فإن السلطات الإسرائيلية حاولت التخفيف من وقع تلك التصريحات ودفعت قائلها لنفيها لاحقا.
لكن نتائج مباحثات ترامب ونتنياهو عادت لتؤكد صدق ما قاله الوزير قرا، إذ أكد ترامب في المؤتمر الصحفي المشترك أن هناك مساعي لمبادرة سلام جديدة وعظيمة (حسب وصفه) ليس فقط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ستتضمن الكثير من الدول العربية الأخرى... وأن الأفكار الجديدة المتعلقة بعملية السلام تتضمن إشراك الحلفاء العرب، وستكون عملية سلام كبيرة وتتضمن قطعة أكبر من الأرض، وهذه الجملة الأخيرة تحديدا هي بيت القصيد، وهي التي تؤكد تصريحات الوزير الإسرائيلي قرا التي أجبر على نفيها إعلاميا.
ليست هذه المرة الأولى التي يفضح فيها الصهاينة صديقهم السيسي ففي الثامن من سبتمبر 2014 قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي في تقرير لمراسلتها إيليئيل شاحر إن السيسي عرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن تمنح مصر جزءاً من أراضي شبه جزيرة سيناء للفلسطينيين تكون محاذية لقطاع غزة، وامتدادا له تساوي خمسة أضعاف المساحة الحالية للقطاع لتقام عليها الدولة الفلسطينية.
وجاء في التقرير ذاته أن المساحة التي عرضها السيسي على عباس تساوي 1600 كيلومترا مربعا على شكل مربع ملاصق لقطاع غزة لتصبح المساحة الإجمالية لقطاع غزة بإضافة الأراضي الجديدة من سيناء، دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على أن تكون منزوعة السلاح ويعود إليها جميع اللاجئين الفلسطينيين من الشتات.
ولأن تلك المعلومات كانت محرجة لنظام السيسي فقد سارع لنفيها، كما طلب من أبو مازن نفيها، ولكن كل ذلك النفي لم ينجح في تبديد تلك المعلومات التي تصدر عن جهات إسرائيلية بين الحين والآخر، ولعل ما يؤكد صحتها هو تلك الإجراءات العملية التي اتخذتها السلطات المصرية لتفريغ سيناء من أهلها باسم الحرب على الإرهاب، حيث تم تهجير سكان رفح قسريا وهدم منازلهم، وحرق أشجارهم، بزعم إنشاء منطقة آمنة منذ أكتوبر 2014، وحتى الآن لم يعد أهل رفح إلى منازلهم، أو حقولهم وعلى الأرجح لن يعودوا تمهيدا لتنفيذ خطة توسيع قطاع غزة لإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المصرية.
من المؤكد أن هذه الخطة مرفوضة من قبل الفلسطينيين المتمسكين بالعودة إلى أراضيهم التاريخية، ولكن من المؤكد أيضا أن السيسي حريص على إرضاء كفلائه في تل أبيب وفاء بدين مستحق لهم، واحتماء بهم نظرا لتآكل شعبيته، وفشله في إدارة شؤون البلاد، وتعرض مصر لأزمة اقتصادية خانقة طالت آثارها الجميع.. المؤيدين قبل الرافضين.