يبدو أن هناك قدرا من عدم التوافق بين الأزهر والسلطة في تقدير كثير من الأمور التي يتطلب الأمر فيها النظر الديني تأصيلا كان أم اجتهادا، والقصة على كل حال ليست جديدة على الأزهر ولا على الدولة فالأمر قديم قدم المؤسسة الأكبر التي تمثل تاريخا وتراثا فكريا وفقهيا عملاقا بالغ الثراء والسعة وقد احتفظ التاريخ بالمواقف المجيدة للأزهر في مواجهة نابليون في ثورتين كبيرتين 1798/1800 ولم يستقر محمد علي على سدة الحكم 1805 إلا برافعة الأزهر الكبرى وعلمائه وشيوخه ثم كان أن غدر بالجميع سواء نتيجة لخلافاتهم -الشيوخ- الداخلية حول الدنيا ولعاعتها أو نتيجة لسعيه الحثيث لإحكام قبضة الدولة على كل شيء، كانت فكرة الدولة القومية ذات السيادة الطاغية على البشر والحجر تملأ رأس محمد علي، وهو ما حدث بالفعل إذ قبض على الفضاء السياسي والاجتماعي بكلتا يديه، وهو أول من اجترأ على الأوقاف التي كانت الظهير الصلب للأزهر في قوته واستقلاليته، بعدها سيأتي البكباشي ج.عبد الناصر سنة 1961 ويفعل في الأزهر أنكى وأسوأ مما فعله محمد على، بالدراسات المدنية التي ألحقها به وبفصل الأوقاف عنه وضمها للدولة وبإصداره قرارا جمهوريا رقم 103 بتعيين شيخ الجامع الأزهر من رئيس الجمهورية لا منتخبا من هيئة كبار العلماء، حتى تبلع الدولة في جوفها العميق كل مكونات المجتمع وعلى رأسها الدين نفسه متمثلا في صرحه الكبير(الأزهر الشريف) كانت تسيطر على ضباط يوليو فكرة الدولة الكاسرة القاهرة المحتكرة لكل شيء دينا ودنيا، وفي مشهد تاريخي يعكس الحالة النفسية المشبوبة بالتسلط والقهر والتي كانت تملأ نفوس هؤلاء الضباط يحكى لنا العلامة الراحل د.رجب البيومي على موقف كان طرفاه الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الجامع الأزهر في الفترة(1954-1958) وقائد الجناح جمال سالم,وما أدراك ما جمال سالم، ما حدث أن الشيخ (عبد الرحمن تاج) تلقى دعوة رسمية عام 1955م من(سوكارنو)رئيس جمهورية اندونيسيا لزيارتها والمشاركة في احتفالها القومي بوصفه شيخ للأزهر وفي الوقت نفسه سافر وفد الحكومة المصرية برئاسة قائد الجناح جمال سالم( 1918-1968)سافر وفد الأزهر برئاسة الإمام الأكبر ووفد الحكومة برئاسة (جمال سالم) في طائرة واحدة,ومرت الطائرة بباكستان أولا وعندما هبطت كان الاستقبال بالغ الحفاوة بالوفدين الأهلي متمثلا في الأزهر والحكومي متمثلا في الصاغ جمال سالم، في اندونيسيا اختلف الأمر قليلا فكان الاستقبال بالغ الحفاوة بوفد الأزهر والشيخ الجليل وأنصرف الناس- إلى حد الإهمال- عن وفد الحكومة وجمال سالم ,وهاج جمال سالم المشهور بالصفاقة وسرعة الهياج وبذاءة اللسان، ويقال أن البكباشي ضمه لتنظيم الضباط الأحرار كي يكون(سفيهة)الذي يطلق بذاءاته على من يخالفه وقد كانت سفاهات جمال سالم على الرئيس محمد نجيب لا تكاد تنقطع، الحاصل أنه بعد انقضاء المظاهر الاحتفالية نادي الصاغ المبجل على الشيخ عبد الرحمن تاج وقال له: لابد أن يرحل من معك من العلماء الآن وحالا وتبقى أنت وحدك فقال له الشيخ: في حدة سأرحل معهم الآن، وسكت جمال سالم ووجد أن موقفه سيكون في غاية الحرج أمام مضيفهم في إندونيسيا وحين عاد الشيخ عبد الرحمن إلى القاهرة عقد مؤتمرا صحفيا حول حفاوة الاستقبال لبعثة الأزهر في رحله إندونيسيا وقابل عبد الناصر وحكى له موقف جمال سالم فسكت ولم يعقب، بعدها سيعهد عبد الناصر إلى اخطر شخصيات دولته على صبري ( 1920-1991م) بالإشراف على شؤون الأزهر كي يتمكن من(كسر أنف) الشيخ عبد الرحمن تاج خريج السوربون وصاحب الكتاب الأشهر(تاريخ التشريع الإسلامي).
سيكون علينا أن نتذكر بكل الفخر والقيمة المبادئ التسع للشيخ الجليل محمود شلتوت(1893-1963م) شيخ الجامع الأزهر في الفترة(58-1963) والتي كان أهم بنودها: السيادة لله وحدة والحكم لله وحده والشعوب تباشره نيابة عن الله والحاكم خادم الأمة والشورى أساس الحكم وبغيره يكون الحكم غير شرعي وللآمة أن تعزل الحاكم إذا جار وظلم وظهر غشمه ولم يرعوي لناصح أو زاجر فإن رفض عزل بالقوة ,الشيخ شلتوت ذكر هذه المبادئ في عز قوة البكباشي و كان الصوت الإسلامي في تيار الحياة ضعيفا خافتا. خير الأزهر ممدود وموصول بعطاء علماؤه وشيوخه الأجلاء,فبعد سنين طال مطالها من هيمنة نظرية(حكم المتغلب صاحب الشوكة)التي كانت تضفى شرعية دينية على الاستيلاء على السلطة بالقوة دون اعتبار للأمة أدرك الأزهر الشريف حجم المسؤولية التاريخية التي أملتها عليه ثورة الشعوب فكان أن أصدر وثيقته الشهيرة في 2011 والتي تذكر أهم موادها:تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة/ اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر كآلية لتداول السلطة/ الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي/ ضرورة توافق سلطة التشريع مع المفهوم الإسلامي/ شرعية السلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية قائمة على رضا الشعوب واختيارها الحرم خلال اقتراع علني يتم في نزاهة وشفافية ديمقراطية باعتباره البديل العصري المنظم لتقاليد البيعة الإسلامية الرشيدة/من قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد حرصا على سلامة الأمة من الفوضى فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم إذا تحققت القدرة على ذلك/مواجهة أي احتجاج وطني سلمى بالقوة والعنف المسلح تعتبر نقضا لميثاق الحكم بين الأمة وحكامها وإذا تمادت السلطة في طغيانها واستهانت بإراقة الدماء حفاظا على بقائها أصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم بل تغيير النظام بأكمله مهما كانت المعاذير/ مواجهة أي احتجاج وطني سلمى بالقوة والعنف المسلح تعتبر نقضا لميثاق الحكم بين الأمة وحكامها وإذا تمادت السلطة في طغيانها واستهانت بإراقة الدماء حفاظا على بقائها أصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم بل تغيير النظام بأكمله مهما كانت المعاذير/ انتهاك حرمة الدم المعصوم هو الخط الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان، وليكون الأزهر بذلك قد أدى واجبا عظيما بتوثيقه لثورة الشعوب وتحريك البدن الثقيل للنظرية التي هيمنت على المشهد السياسي العربي منذ الدولة الأموية وحتى الآن ولتبدأ التجربة السياسية العربية تأخذ منحى أخر بعيدا عن الشوكة والتغلب، على الأقل من جانب الإسناد الأدبي والمعنوي كون الصوت الذي دوى بها هو أكثر الأصوات أمانة وصدقا.
أختم بكلمات للمجاهد الكبير فتحي رضوان رحمه الله (1911-1988) من كتابه، دور العمائم في تاريخ مصر الحديث، فيقول (إذا تأمل الإنسان في تاريخ مصر الحديث منذ بدأ حتى الآن ظهرت له حقيقة غريبة وهى أن مصر الحديثة صاغها وصورها وألهمها بالفكر ودعاها إلى العمل ورسم لها طريق النهضة شيوخ لم يتخلوا عن العمامة، كانوا قادة حركات تجديد ورواد نهضات تحرر وناثري بذور ثورة، وطليعة عهد جديد وأنهم ثاروا وتمردوا واصطدموا بقوى أكبر منهم ولكنهم لم يتزلزلوا ولم يتخلوا عن رسالتهم ولم يداخلهم الخوف أويتسرب إليهم الشعور بالنقص).
1
شارك
التعليقات (1)
طارق عوض
الإثنين، 13-02-201702:08 م
محتاجين درس في تحول عمر مكرم من مساند لمحمد علي ولماذا
ثم انصرافه عن السياسه و العزله في الوقت الذي كان يجب ان يكون شهيد للخلافه العثمانيه الذي حاربها محمد علي بتوكيل من الانجليز من اقصى شرق مصر الى غربها