عادت السلع الغذائية والأسماك المصرية القادمة عبر الأنفاق الأرضية إلى الظهور على أرفف المحلات التجارية، في قطاع غزة، بعد غياب تجاوز السنوات الثلاث، وكانت تلك الأنفاق تشكل ممرا مهما لتلبية احتياجات سكان القطاع في الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2013؛ إذ ظلت القناة الرئيسية لتوصيل الأدوية والأغذية والوقود إلى المحاصرين.
وكانت السلطات المصرية قد سمحت يوم السبت 28/1 بتوريد كميات من القمح إلى غزة عبر معبر رفح البري، إذ وصلت إلى القطاع ثلاث شاحنات كبيرة محملة بحاويات قمح قيل إن القطاع الخاص قام باستيرادها. وتلك هي المرة الأولى التي تسمح فيها السلطات المصرية بتوصيل القمح إلى غزة، وكانت قد سمحت في شهر ديسمبر الماضي بإدخال كميات من الأسمنت والأخشاب ومواد تعبيد الطرق للقطاع، إضافة إلى 40 مركبة حديثة.
إلا أن وصول البضائع المصرية إلى غزة عبر الأنفاق لم يكن خبرا سارا لصيادي الأسماك بالقطاع، ذلك أن تشغيل الأنفاق التجارية سمح بإيصال الأسماك المصرية بمعدل 2 طن يوميا في المتوسط. وهو ما أدى إلى انخفاض أسعار الأسماك في الأسواق بمعدل النصف تقريبا.
من ناحية أخرى، صرح جلال إسماعيل مدير التسويق والمعابر في القطاع بأن الوزارة تمنع إدخال المنتجات الزراعية التي يتم الاكتفاء بها ذاتيا، مع ذلك ففي الأسواق كميات محدودة من الفول الأخضر المصري. كما أن العطارين استوردوا من مصر حاجتهم من الأعشاب. وتشكل المعلبات المصرية جزءا مهما من السلع التي تأتي عبر الأنفاق. وتمثل الأجبان نسبة 80? منها، كما أن العسل المصري منتشر في محلات البقالة.
ما سبق تفصيلات أوردها تقرير لوكالة الأناضول للأنباء نشرته صحيفة «العربي الجديد» في 28/1. وهو يصور حالة الانفراج التجاري النسبي التي شهدها قطاع غزة، في ظل الأجواء الإيجابية التي طرأت على العلاقة بين القاهرة وحركة حماس، وهو ما يعد تطورا مهما حقق مصلحة للطرفين. فقد أدى إلي انتعاش نسبي في أسواق غزة خفف من وطأة الحصار، كما أنه أنعش حركة التجارة مع الجانب المصري التي تقدر قيمتها بما يتراوح بين ثلاثة أو أربعة مليارات دولار، حرمت منها مصر طيلة سنوات الخصام، وذهبت كلها إلى إسرائيل بصورة تلقائية.
لا يستطيع المرء وهو يطالع التقرير أن يتجاهل حقيقة الدور الذي أصبحت تقوم به الأنفاق في الوضع الراهن، وهي التي كانت في البداية حلا عبقريا لجأ إليه الفلسطينيون لكسر الحصار، ثم أساء البعض استخدامه، بحيث صورت في الإعلام بحسبانها خطرا يهدد أمن مصر. من ناحية أخرى، فإن للأمر صلة بما أثرته أمس عن المصالح التي تهدر جراء خلط السياسة بالاقتصاد، وارتهان مختلف صور التعاون الخارجي لصالح اتجاهات الريح السياسية، وهو ما أدى إلى عدم تطوير العلاقات مع تركيا وتجميد أو قطع العلاقات مع إيران وهو ما يسري على قطر أيضا.
لا أتحدث عن تبادل المودة فذلك حد أقصى يحتاج إلى وقت كما يتطلب توافقا سياسيا بين الحكومات، لكنني أتحدث عن تبادل المصالح التي تفيد المجتمعات والشعوب رغم اختلاف السياسات. إذ إن معيار كفاءة الإدارة لا يقاس بمقدار التفاعل مع من نحب، لكنه يقاس بمدى القدرة على إدارة الخلاف والحفاظ على تبادل المصالح مع من نكره، علما بأن التبادل التجاري لا يعني بالضرورة الاتفاق في السياسات، وفي الوقت الراهن فإن تركيا وإيران على طرفي نقيض في الملف السوري مثلا، مع ذلك فالبضائع التركية تملأ الأسواق الإيرانية.
أدري أنه في العالم العربي يصعب فك الارتباط بين السياسة وغيرها من الأنشطة، بما فيها الاقتصاد، لكن مقام دولة كبيرة بحجم مصر، فضلا عن ظروفها الاقتصادية الدقيقة، يتطلب التمييز بين تلك الأنشطة بما يحفظ استمرار تبادل المصالح التي تخدم الشعوب وتحفظ أواصرها؛ لأن الشعوب هي الثابت المستمر، أما الأنظمة والسياسات فهي المتغيرة بطبيعتها.