تتواتر دعوات إلى «المراجعة» في أوساط معارضين سوريين، بارتباط ظاهر مع إعادة احتلال حلب من قبل الدولة الأسدية، وأسيادها من الروس والإيرانيين، وإدراك منتشر بمنعطف كبير في مسار الصراع السوري، تزامن مع نهاية عام 2016 المنقضي. ومنذ الآن هناك نصوص ومشاريع في هذا الشأن.
لكن ما هو متاح من مقاربات يبدو أكثر تعجلا من أن يكون مراجعة شاملة، وأقل بكثير من أن يكون مراجعة جدية. وهو في عجلة من أمره حتى أنه لا يخصص سطورا لتقدير ما قد يعقب حلب: هل تترك إدلب مثلا أكثر لتكون بؤرة قاعدية، يضفي وجودها الشرعية على الترتيبات الجديدة؟ والرقة التي بيد «داعش» هل تبقى موطنا آخر، محاصرا ومعزولا، مخصصا لمنبوذين لا يريد أحد عودتهم إليه، ما دام هناك فيتو أمريكي على دعم أبناء الرقة من أجل استعادة مدينتهم؟ وبعد تكتيف الأمريكيين وحكومة الأردن (وإسرائيل في الخلفية) للجبهة الجنوبية طوال ما يقترب من عامين، هل يجري تسليمها للنظام، ضمن ترتيب خاص يستبعد إيران وتابعها اللبناني إلى مسافة معينة؟ والغوطة الشرقية؟ والتفاوض الوشيك في كازاخستان مع فصائل مسلحة، وباستبعاد المعارضة السياسية؟
لا يبدو أن «المراجعين» يملكون من الإجابات ما هو أوضح من عموم السوريين. وهم لا يستخلصون من قلة المعرفة شيئا يخص قلة التحكم، ليس تحكمهم بمسارات الأوضاع السورية، بل بمسار حركة المراجعة نفسها، وما يؤمل تحصيله منها من وضوح أكبر وتوجه أسلم. ليس في المتاح من مراجعات ما يقول لماذا يعتقد أصحابها أن محصلتها، أيا تكن، ستجد سبيلها إلى ترجمة سياسية أكثر إقناعا وتأثيرا مما تجري مراجعته.
هناك ما يشبه هلعا من الحيرة، من حال اللايقين الواسمة لأطوار التحول والانعطافات الكبيرة. وتحت وطأة هذا الهلع تجري المسارعة إلى اعتناق يقين جديد، هربا من الفراغ وفقدان التوجه. اليقين الجديد لا يقول شيئا يبنى عليه، ولا يصمد أياما.
وغير البحث عن اليقين، يتخلل الدعوات السورية إلى المراجعة تلهف إلى البحث عن أكباش فداء، إلى مخطئين يتحملون المسؤولية، ومن شأن التخلص منهم أن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
ويبدو أن هذين النازعين، إلى اليقين وإلى قرابين، مترابطان بصورة وثيقة. فمن شأن التخلص من الآثمين أن يطهر الجماعة أو «يزكيها» حسب التعبير الإسلامي، ويوفر اليقين بأننا على الحق، فيكون سندا صلبا للأفراد، والعروة الوثقى لالتحام لا ينفصم لجماعة جديدة؛ ومن شأن اليقين، بالمقابل، أن يكون سندا لإجماع صلب، ولإرادة قوية للأفراد، أي أيضا إجماع أمر الواحد منا على معتقده.
اليقين في الاعتقاد والذبيحة التضحوية مترابطان على نحو وثيق (حسب مؤدى تحليل رينيه جيرار في «العنف والمقدس»). عقائد اليقين تترابط مع عنف ضد من يرون مهددين للإجماع، بما في ذلك إجماع الفرد ضد تعدده الداخلي. اليقين لذلك مخيف. وهو في كل حال من مطالب الاجتماع وليس من مطالب المعرفة، وارتباطه بالإجماع وثيق.
في سوريا اليوم أزمة قربانية (أو تضحوية، أو افتدائية)، إن استخدمنا عبارة رينيه جيرار. هناك «نظام ثقافي» مختل اختلالا عميقا، أعني مجمل النظام الاجتماعي والسياسي والرمزي والفكري، تفجرت الثورة بفعل اختلاله وأظهرت مدى هذا الاختلال، وكان من شأن التخلص من بشار الأسد ونظامه أن يكون فعل تأسيس لنظام جديد. لم يحدث، بسبب ما تلقاه المذكور من دعم قوى باطشة ما كان يستطيع السوريون مجابهتها، أيا تكن سياستهم. وبفعل فشل الثورة، هناك اليوم أزمة متفجرة في الأوساط السورية المعارضة، يبدو أنها تحفز إلى البحث عن قرابين.
لكن، أيا تكن أخطاء المعارضة السورية المنظمة، و«المراجعات» جارية في صفوفها حصرا وموجهة لها، فتأثيرها على مسار الثورة محدود بفعل انطلاق ديناميكية تجذر وعسكرة وأسلمة بعد إخفاق الاحتجاجات السلمية في إسقاط النظام أو دفعه في عام 2011 أو 2012 إلى تسوية تاريخية تغير البيئة السياسية في البلد تغيرا أساسيا.
لم يكن للمعارضة السورية في أي وقت سيطرة أو حتى تأثير على هذه الديناميكية التي أطلقها تطرف النظام وعنفه وطائفيته. وهو ما تفاقم بعد دخولنا طور الصراع السني الشيعي في ربيع 2013، ثم طور المتحكمين الإمبرياليين، الأمريكيين والروس، الذين عملوا على إلحاق الصراع السوري ككل، بـ«الحرب ضد الإرهاب».
ومن باب ضرب مثال واحد شهير، فإنه ما كان لموقف المعارضة المنظمة من ظهور «جبهة النصرة» أن يحدث فرقا بخصوص مسار الثورة على الأرض، ما دام الموقف المفترض غير ذي أثر على ديناميكية التشدد والعسكرة والأسلمة التي انطلقت تدريجيا بفعل الحرب على الثورة.
جبهة النصرة ليست نتاجا حصريا لهذه الديناميكية، لكن الركن الأول في أية سياسة لمواجهة النصرة وعزلها هو تعطيل هذه الديناميكية. وما كان يمكن إنجاز ذلك بينما النظام يواجه الثورة بالعسكرة والطائفية، ويتوسع في حربه ضد بيئات الثورة، ويغلق باب السياسة طوال الوقت.
بالمناسبة، لا تكاد تتوفر كتابات «موضوعية» جدية من طرف المعارضة المنظمة حول الثورة في أي وقت، وخلال ست سنوات. أعني كتابات غير ظرفية، تستند إلى معطيات موثوقة بقدر الممكن، وتحاول الإحاطة بمجمل عملية الثورة. هذا أساسي كي يكون للكلام على المراجعة معنى. فلكي نراجع، يجب أن نعرف أين نحن اليوم، وكيف وصلنا إلى هنا، وما هي الأطوار الأساسية في الصراع، وما الديناميكيات التي حركت الوضع السوري في كل طور، وما كانت هوامش مبادرتنا ومساحات حريتنا، وتاليا دور أخطائنا المحتملة في فشل الثورة. دون هذا النظر «الموضوعي»، من المحتمل جدا أن يحرك المراجعة البحث اللجوج عن يقين وقرابين.
وتقدير كاتب هذه السطور أن النظر «الموضوعي» يفيد بأنه منذ أخذ ينهار الإطار الوطني للصراع السوري، في النصف الثاني من عام 2012، لم يعد لخيارات المعارضة تأثير مهم على الأوضاع العامة. فقد فاقم هذا الانهيار ما كان أصلا تمايزا في المنشأ والتكوين بين الثورة والمعارضة، تمايز كان من شأن سقوط مبكر نسبيا للنظام فقط أن يحد من آثاره أو يطلق ديناميكيات مغايرة تنزع نحو الاستيعاب والاعتدال والسياسة. ربما كان من شأن خيارات المعارضة أن تؤثر على أوضاع المعارضة بالذات، فتصون شيئا من كرامتها أو تهدرها بمزيد من التبعية للاعبين مقررين، إقليميين ودوليين، لكن ليس على مسار الصراع ذاته. حين تشكل الائتلاف في أواخر عام 2012 كان سلفا يلعب في الوقت الضائع، وكان ظاهرا منذ البداية أنه تعبير عن تقدم تبعية المعارضة الرسمية لفاعلين إقليميين ودوليين.
يمكن لوم المعارضة على أنها لم تصن كرامة «ثورة الكرامة»، لكن لعله مما لا يرضي الانفعالات الظامئة إلى اللوم اليوم القول إن نصيب أخطائنا ومخطئينا في أوضاع الثورة محدود، قياسا إلى قوة أعدائنا وفجورهم الإجرامي، الدولة الأسدية أولا، ثم شركائها الطائفيين الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين، ثم روسيا الإمبراطورية، وعلى سندان نظام دولي تمييزي لا يقيم شأنا لحياة عموم السوريين. وليس في إطلاق عملية بحث عن المخطئين في كل اتجاه، وتوزيع الاتهامات في كل اتجاه، ما يمكن أن تبنى عليه سياسة مغايرة أو يثمر وضوحا أكبر أو يصون كرامة المعارضين.
وكما أننا لم نهزم بسبب أخطائنا، لم تفز دولة الأسديين بفضل سياسة صحيحة، بل بفضل روسيا وإيران وأتباعهما. قول هذا ضروري لتجنب منطق أكباش الفداء النشط اليوم. وهو منطق يهدر كرامة الثورة السورية، وينزلق بهلع نحو تبرؤ ذاتي من شركاء في الضعف، ما يضعف الجميع أكثر، كما يشكل غطاء لانتهازيين متنوعين، ممن لم تكن الثورة قضيتهم في أي وقت.
ولعل من المفيد التذكير في هذا المقام بتفاعل جيل سابق من أجيالنا مع كارثة حزيران 1967.
بانفعال، نزع المثقفون إلى نسبة الهزيمة إلى تقصير ذاتي في بنانا الاجتماعية والثقافية، ومزج السياسيون بين مزايدة كاذبة، وبين قمع كل اعتراض.
في واقع الأمر كانت إسرائيل مكفولة الانتصار على ما ظهر بعد ستة أعوام حين بذلت بلداننا أحسن طاقاتها المتواضعة. كانت خطة أسلم لو عملنا بتواضع على تحسين تلك الطاقات المتواضعة، وتقبلنا العمل على تطوير مجتمعاتنا، تعليميا واقتصاديا وسياسيا، دون تجريح للذات تطور إلى مرض جمعي في العقود اللاحقة، ودون الأوهام السلطانية التي أفضت إلى خراب بلداننا وعودة بعضها، ومنها أول جمهورية عربية، والبلد الأقدم استقلالا، سوريا، تحت احتلالات أجنبية وسيطرة طائفية. وإلى جانب ذلك معرفة أفضل بإسرائيل والعالم المعاصر، و«مراجعة» الحرب التي أذللنا فيها تلك المذلة الخارقة بالذات.
في سوريا لم يصدر كتاب واحد مهم خلال خمسين عاما يتكلم عن تلك الحرب، وهذا بارتباط ظاهر مع كون وزير دفاع الهزيمة، حافظ الأسد، هو الذي حكم البلد عقودا بعدها بقليل، قبل أن يجعلها ملكا وراثيا في سلالته.
كان هناك كلام كثير على «الهزيمة»، لكن ليس أي بحث مدقق في الحرب التي انهزمنا فيها. هذه السيرة مرشحة للتكرر اليوم.
اليوم، أعداؤنا يخلقون شروط حرب مستمرة، مثلما خلقت عدوانية إسرائيل وعنصريتها شروط الحرب المستمرة في «الشرق الأوسط». وهذا مسوغ إضافي لأن لا نكون وقودا لمعارك جانبية، ننساق إليها بقصر نظرنا، حين قد يكون النهج الأنسب التروي واستعداد للتحيّر، وأن نختار من بين الخيارات المتاحة ما يصون كرامتنا، بلدا وقضية وأفرادا.
وليس في ذلك ما يقول إن المعارضة السورية لم ترتكب أخطاء كبيرة، لكن ليس لهذا تفشل الثورة. كل نقطة مما يرد في المتاح من مراجعات تقتضي تناولا مفصلا، يحول دون انقلاب المراجعة إلى رجعة إلى أفكار سبق لوْكها، أو إلى محاكمة الثورة ذاتها من وراء قناع من الحرص عليها. ليس المراجعون سيئي النية حتما، لكن المراجع المتعجل قد يكون متراجعا غافلا، وقد يخدم عدوه من حيث لا يدري.
كانت معارضتنا غير محترمة وغير مستقلة، وهذا جعل الهزيمة أكثر مرارة. وتركنا مفتقرين إلى سند موثوق، في مواجهة وضع نحتاج فيه إلى أن نحول إخفاقنا إلى بداية لشيء جديد. لكن لا سند موثوقا ولا بداية مغايرة في دعوات المراجعة الحالية، التي تبدو منذ الآن استمرارا للشيء نفسه، يتواتر أن يدعو إليه الأشخاص أنفسهم أيضا.