يُصادف يوم العاشر من ديسمبر كل عام الذكرى السنوية لحقوق الإنسان، وهي المناسبة التي دأب الاحتفال بها كل سنة من أجل تكريم قرار الجمعية العام للأمم المتحدة، الصادر في 10 ديسمبر 1948 حول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتتزامن مع هذه المناسبة احتفالات عديدة تقوم بها منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة، والجمعيات الحقوقية المكافحة من أجل تكريس احترام حقوق الإنسان، كما تمّ تضمينها في الاتفاقيات والصكوك الدولية ذات الصلة.
لن يكون الجواب عن سؤال هذه المقالة بالإيجاب، أي بالإشادة بأحوال حقوق الإنسان في أوطاننا العربية، كما لن تكون صورتنا عن واقع حقوق الإنسان في منطقتها بالشكل الذي يجعلنا نشعر وكأن شيئا لم يحدث ولم يتحقق في بلداننا، إن الموضوعية تقتضي أن نُبرز ما تحقق، وندعو إلى تكريسه وتوطينه في ثقافة دولنا ومجتمعاتنا، ونعمل، بالموازاة، على التنبيه إلى ما لم يتحقق، وما زال مستمرا سلوكا مشينا في ممارسات دولنا ومؤسساتها. بيد أنني قبل هذا وذاك، أود تذكير القارئ الكريم ببعض ما بدا لي مهما ودالا في منحنيات التطور أو النكوص في أحوال حقوق الإنسان في منطقتنا.
يجدر بنا أن نشير إلى أن المدخل لحلِّ قضية حقوق الإنسان هو، بكل المقاييس، مدخل تربوي وثقافي، وأن الجانب المعياري، أي التشريعات والقوانين، وحتى بناء المؤسسات، متغيرات مهمة دون شك، لكنها لا تحلّ القضية من جذورها. لذلك، التغيير في اتجاه ترسيخ حقوق الإنسان وتوطينها في الممارسة، عملية طويلة النفس، معقدة وشاقة، وتتطلب تكاتف الجميع من أجل الإعلاء من شأنها، بالتوعية المستمرة، والتثقيف، والتربية المنتظمة، والحرص على مراكمة الممارسات السليمة والمثلى، علاوة على وجود قدوة مُحفِّزة في الأسرة، والمدرسة، والجامعة، وفي كل مواطن التنشئة الاجتماعية.
ليست أحوال حقوق الإنسان في منطقتنا العربية بخير بطبيعة الحال، لكن ليست أيضا على درجة من التدهور يمكننا الاقتناع معها بأن لا أمل يُرجى، وإن قدرنا أن نبقى مغردين خارج السرب في موضوع حقوق الإنسان. إننا في منزلة بين المنزلتين، وإننا نحتاج إلى ثورات هادئة لتحويل حقوق الإنسان من مجرد مطالب ومتمنيات وتطلعات إلى طقوس يومية في كل شيء في حياتنا، وفي علاقاتنا الفردية والجماعية، وفي علاقة دولنا بمجتمعاتها، وحتى في علاقاتنا بالآخرين من غير أبناء جلدتنا في ربوع وثقافتنا. فالحاصل أننا بذلنا جهودا في العقود الثلاثة الأخيرة في مجال إقرار حقوق الإنسان والاعتراف بها في دساتيرنا، وتشريعاتنا وقوانيننا، وفي المؤسسات التي أحدثناها بُغية تكريسها في الممارسة. فمن هذه الزاوية بالذات ثمة درجات من التقدم متفاوتة من بلد إلى آخر، لكن ما عجزنا عن إدراكه أن يسود الاطمئنان في نفوس أبناء بأنهم أحرار في أوطانهم، وأنهم قادرون على الجهر بما يختلج في أفئدتهم دون رقيب الخوف، ورقباء الدولة والسلطة.
لينظر معي القارئ الكريم إلى خريطة العالم، ويفحص ما يجري في منطقتنا مقارنة مع كل مناطق العالم من وقائع على الأرض، فسيحكم دون شك أننا في وضع لا نُحسد عليه، من حيث فداحة الجرائم المرتكبة بالجملة، ومن حيث تقهقر الحريات الفردية والجماعية في الكثير من بلداننا، وفي اتساع فجوة ضعف العدالة الاجتماعية، التي بوجودها، يشعر كل واحد منا أن له أقرانا يتساوى معهم في الحقوق والحريات والواجبات، وأن الوطن واحد بالمفرد، وليس أوطانا بالجمع.
ليس ما آلت إليه أحوال حقوق الإنسان في منطقتنا العربية قدرا مقدرا، أو خاصية ملازمة بالفطرة لمجتمعاتنا، إنها نتيجة مسار تاريخي وثقافي، ومحصلة ممارسة سياسية عجزت نُخبها القائدة عن مراكمة ثقافة ديمقراطية تُعلي مفهوم الحرية وقيمة العدالة، وما يتفرع عنهما من متطلبات بناء الدولة العصرية، التي تتسع للجميع، ويشارك الجميع في بنائها والمحافظة على كيانها.
لنُلاحظ كيف أن المجتمعات العربية التي افتتحت القرن العشرين بسؤال الإصلاح، ودّعته بذات السؤال وبالحرقة نفسها التي عبر عنها زعماؤها نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن الموالي له. ونلاحظ أكثر كيف أن الربع الأخير من القرن العشرين، الذي شكل قفزة نوعية في اتجاه انعطاف النظم المتأخرة في الدّمقرطة، وفتح الطريق لأكثر من أربعين دولة للخروج من نفق الشمولية إلى رحاب المشاركة واحترام حقوق الإنسان، لم يتضمن أي اسم لأي بلد عربي، لقد ظلت منطقتنا تغرد خارج السرب خلال موجة الانتقالات الديمقراطية.. إنها ما أسمته الكثير من الأدبيات "الفُرادة العربية القاتلة".
ما يجب أن نعيَه، ونقبله ونتصالح معه، أننا جزء من العالم، نُقاسمُه قيمَه إلى جانب ما يميزنا، ونشترك معه في ما يحترم كرامةَ الإنسان ويجعله مخلوقا جديرا بالعيش والعطاء، وأن مجتمعاتنا ليست مجرد رعيةً، قدرها أن تعيش تحت عباءة الحاكِم، وتقتات مما يمنحه إياها.. هذه النظرة الدنيوية كانت وما تزال في أصل ما يعتمل داخل بلداننا.. إن حقوق الناس وحرياتهم ضرورات طيبات، كفلتها الشرائع، وأقرتها القوانين، وتحتاج إلى إرادة احترامها في الممارسة، وشجاعة تحويلها إلى ثقافة وطقوس يومية لدى الأفراد والجماعات بغض النظر عما يجعلهم متمايزين دينيا، أو لغويا، أو عَقَديا.. فالمبدأ أن الناس متساوون، والاستثناء أنهم غير ذلك، والاستثناء، كما يقول المناطقة، لا حكم له أو لا حكم عليه.