لما تنامى إلى سمعي أن الإعلامي المصري، ورئيس تحرير مجلة "صباح الخير" سابقا، "مفيد فوزي" يذكر الشيخ الراحل "محمد متولي الشعراوي"، رحمه الله، بغير الخير على قناة يدعمها أحد رجال الأعمال المُقربين من الانقلاب مساء الخميس 1 من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تعجبتُ بداية من أمرين: وجود "فوزي" على قيد الحياة "الإعلامية" على الأقل، وتذكره للراحل الشيخ "الشعراوي" بعد قرابة 18 عاما من وفاته، رحمه الله، إذ قبض الله روحه في القاهرة في 17 من نيسان/أبريل 1998م.
أما بقية ما قفز إلى الخاطر فخليط أفكار بداية من أن الانقلاب وفر "الحاضنة" الأكثر مرارة للعلمانيين واليساريين، من أي وقت سبق، وإلا فها هو الرجل الذي طالما أتحفنا بتعريف نفسه على أنه "محاور" لا "مذيع" للبرامج الذي كان معروفا على شاشة القناة الأولى بالتلفزيون المصري، في سهرة يوم العطلة (الجمعة) باستضافة اللواء "حبيب العادلي" آخر وزراء داخلية عهد المخلوع "حسني مبارك" في كل يوم عيد للشرطة (25 كانون الثاني/ يناير)، ولم تكن فترة بسيطة لأن "العادلي" استمر في الوزارة من عام 1997 حتى عام 2011 لما أسقطته الثورة، أتمها الله على خير ولطف بأهلها.
وعلى مدار أكثر من 10 مرات، فيما كان المخلصون الشرفاء من أهل مصر يعانون من الحبس، والتنكيل، والطرد من العمل، وأحيانا القتل في أقسام الشرطة، بقدر أقل مما هو الحال عليه اليوم لكن قليل الجرائم جرائم، وفي كل لقاء كان "العادلي" يؤكد أن مصر هي المدينة الفاضلة في حقوق الإنسان، وأنه يرعى الأمر بنفسه!
ولم يستح "فوزي" من الظهور بعد الانقلاب على الثورة، مكشرا عن أنيابه، ومعلنا أن لديه ما يُقال من آيات النفاق من عهد "جمال عبد الناصر" مرورا بـ"محمد أنور السادات" حتى "مبارك" وقائد الانقلاب، لم يستح الرجل المسيحي مؤخرا من أن يحدثنا عن بلاغة اللغة التي كانت تغلب بلاغة التفسير عند الشيخ "الشعراوي"، ولم يأنف "فوزي" من كونه يتحدث عن "ميت" لا يستطيع الرد عليه، أو أن الأمر الذي يتحدث عنه لا يخصه من الأساس، لأنه يتحدث عن دين هو اختار بمحض إرادته غيره، فضلا عن أنه لا "فوزي"، ولا أعتى إعلامي مصري يستطيع التحدث عن "راهب" أو "قس" مهما بدرت منهما مخالفات "سلوكية" غير سويِّة بالمرة، لا مجرد رأي، وراهب أسيوط المشلوح ومغامراته في 2001م غير بعيدة، ومن يومها ومثل هذه المخالفات تتجدد، أحيانا، في صمت نسبي بعيدا عن الإعلام!
أما ما قاله فوزي في حوار مع "حمدي رزق" فخير إدانة لكليهما، فقد كان "فوزي" على علاقة جيدة مع "الشعراوي" إبان توليته الوزارة كعهده مع الرجال في المناصب، لذلك فما إن بدرت منه ما أسماه الراحل الشيخ الشعراوي "مشاغبة" إلا بادر بالاعتذار عنها، من إطعام الشعراوي له "درة بدولار" فنشرها "فوزي" في وقتها نكاية في الرجل، والأمر يخصنا منه، إن صدق "فوزي" في روايته.. الجناس اللغوي الفج "درة.. دولار" الذي حرص "فوزي" عليه طوال حياته، ثم هو يعيب بعد ممات "الشعراوي" عليه ملكته اللغوية في تفسير القرآن!
على أن الأمر لا يخص كلمات عابرة في حق الراحل الشيخ "الشعراوي"، من أنه مهد التربة المصرية لـ(الإرهاب) وكرّس له، حاشى لله، بل يخص أمرا تربى وتشكل وجدان جيلي كله عليه، وإن لم يكن "الشعراوي" محقا في جميع مواقفه، للأمانة، ومنها موقفه مع الشيخ "عاشور محمد نصر" في جلسة مجلس الشعب المصري في 20 من آذار/ مارس 1978 في مدة وزارة "الشعراوي" للأوقاف المصرية في حكومة رئيس الوزراء الراحل "ممدوح سالم"، وهي الفترة التي لم تدم في حياة الشيخ سوى عام وعشرة أشهر و25 يوما، وقال يومها كلمته التي عاتبه فيها الشيخ الراحل "عبد الحميد كشك" بقسوة، إذ قال الأول: "هذا رجل لا يُسأل عما يفعل"، قاصدا الرئيس الحاكم آنذاك، الراحل "محمد أنور السادات"، وهو ما فهمه الشيخ "كشك" على أنه تمجيد بل تأليه لـ"السادات"، ورد على وزير الأوقاف حينها بقسوة، وهو يخطب في مسجد "عين الحياة" في "دير الملاك" في القاهرة، في أحد أبرز مساجد وزارة الأوقاف نفسها، وينتقد وزيرها بشدة، وهو ما كان يملك الشيخ "الشعراوي" حياله نفي الشيخ إلى الصعيد، بل الإبلاغ عنه، وهو ما لم يحدث، فقط بعد وفاة "السادات" سُئل "الشعراوي" عن معنى الكلماة فقال: قصدتُ أنه "مجنون" فالأخير لا يُسأل عما يفعل!
ومع كون الكلمة الأخيرة لا تُبرئ ساحة الشيخ، رحمه الله، ورده على الشيخ "عاشور نصر"، وهما في دار الحق، ولا يشفع للشيخين عدم معرفة الناس بالأخير كما يزعم بعض المُنتسبين إلى الإسلام، ربما بحسن نية، فالأمر يكفي فيه معرفة وإحاطة الله فحسب، وهو الكافي القابل لصالح الأعمال، سبحانه.
على أن الأمر الأخير لا يمنع أن "الشعراوي" قدم قرابة ألف حلقة من تفسير كتاب الله، كان التلفزيون يدفع له ألف جنيه عن الحلقة؛ يرفض تسلمها ويتركها لله، كما لا يمنع الأمر الأخير أن التفسير الذي قدمه الشيخ "الشعراوي" كان محاولة من الدولة لاحتواء العالم ذي القدرات غير المحدودة لتبيض وجه السلطة العلماني القميء في عهديّ السادات ومبارك، وهو ما استمر الحال عليه حتى وفاة الشيخ، وهو، أيضا، ما لم يكن يرض كثير من العلمانيين واليسارين ومَنْ شابههم، بداية من الراحل الدكتور "زكي نجيب محمود" حتى انبرى الراحل "يوسف إدريس" في الثمانينيات من القرن الماضي ليقول إن "الشعراوي" ممثل مسرحي هزلي يخدع الجماهير بإشاراته ودرجات صوته، وهو ما تعفف الشيخ "الشعراوي"، رحمه الله، عن الرد عنه تماما، فيما قامت جريدة "اللواء الإسلامي" التابعة للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك بالرد عليه في حملة مطولة في منتصف الثمانينيات، وفي نهاية هذا العقد رأيتُ الدكتور الراحل "إدريس" في معرض القاهرة للكتاب يقول إنه يريد مواجهة تلفزيونية على الهواء مع الشيخ "الشعراوي"؛ ليرد عليه مئات الشباب في إحدى أسخن ندوات معرض ذلك الزمان قائلا:
ـ هو لا يرضى!
رحم الله "الشعراوي" بقدر ما تلقى من انتقادات من رموز علمانية في حياته، وبعد وفاته، وبقدر ما أثرى وجدان ملايين الشباب في مختلف الحركات والاتجاهات الإسلامية وما يزال يُذكرها بالله عبر فيديوهاته وكتبه، ومهد بل جذّر في النفوس أن قدر الله غالب، وأن من أقداره أن المستقبل لهذا الدين، مهما اعترض بعض خلقه!