لم يكن متوقعا، مع انطلاق الانتخابات الأولوية لمرشحي اليمين والوسط في فرنسا، أن يتصدر "فرانسوا فيون" قائمة الفائزين للتنافس في رئاسيات مايو/آيار من العام المقبل (2017)، فقد رجحت مجمل التوقعات فوز عُمدة مدينة "بوردو" "آلان جوبي"، أو الرئيس السابق "نيكولا ساركوزي".. والحال أن ما حصل كان معاكسا لبعض استطلاعات الرأي، حيث قفز إسم "فرانسوا فيون" بشكل لافت، مُقصيا رئيسه: نيكولا ساركوزي" في دورة الخميس 24 نوفمبر الماضي، قبل أن يحسم النصر لصالحه يوم الأحد 27 منه.
تميزت الانتخابات الفرنسية على الدوام بطعم خاص، سواء على صعيد الخطابات المتصارعة، أو على مستوى البرامج والإستراتيحيات المُتناظرة، أو فيما يتعلق بنوعية المرشحين المتنافسين.. وفي كل مرة يقدم الفرنسيون صورة مغايرة لبلدهم عما يجري في انتخابات الكثير من بلاد المعمورة. فعلى الرغم من انتقاد الكثير من المواطنين الفرنسيين المستوى الذي آل إليه النقاشُ السياسي في بلدهم، وتراجع عهد الزعماء الكبار، وأفول الإيديولوجيات، فقد ظل المجالُ السياسي الفرنسي، مع ذلك، محافظا على أساسياته في مضمار التنافس حول الرؤى، والتوجهات والأفكار، أي التعبير عن الخيارات الكبرى المتصارعة داخل فرنسا.
لنلاحظ على سبيل المثال، الطريقة التي حسم من خلالها اليمين والوسط اختيار المرشح النهائي للرئاسيات المقبلة، وكيف قادا نقاشات الجولات الأولية بين مرشحيه السبعة الأساسيين، واستطاعا بمنتهى المسؤولية الدفع بهؤلاء إلى التعبير عن اختلافاتهم وتبايانات مشاريعهم داخل العائلة السياسية الواحدة، أي اليمين والوسط، والأهم كيف قاما بتعبئة أكثر من 4 ملايين ونصف المليون ناخب من أجل اختيار الأنسب من المتنافسين.. وسنلاحظ كيف سيتوحد أنصار اليمين والوسط ويتكاتفون من أجل تأييد ودعم "فرانسوا فيون" في الانتخاب الرئاسي المقبل، الذي لم تبق منه سوى بضعة شهور.
لم تسجل منافسات الانتخابات الأولية وجود خلافات جوهرية كبيرة وفاصلة بين مرشحي اليمين والوسط، فالاختلافات تركزت حول التفاصيل والآليات، وسبل الإنجاز، أما السياسات الكبرى والرؤى الناظمة لها فكانت من طينة واحدة، لأن التنافس حاصل بين مكونات العائلة السياسية الواحدة. ولهذا لم يكن مفاجئا أن أعلن "ساركوزي" أولا، و "جوبي" ثانيا تأييدهما ودعمهما لـ"فرانسوا فيون" مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن فوز هذا الأخير.
من هو "فرانسوا فيون"، الذي أصبح رسميا مرشح اليمين والوسط للرئاسيات القادمة؟ وهل تؤهله خبراته السياسية والعملية لأن يقود فرنسا في حال فوزه في اقتراع مايو/ أيار القادم (2017)؟
من المرجح جدا أن يبقى "فيون" في الدور الثاني في الاقتراع الرئاسي المقبل، وقد يجد نفسه وجها لوجه أمام مرشحة "اليمين المتطرف"، زعيمة الحزب الوطني، "ماري لوبين"، لا سيما وأن عائلة اليسار الاشتراكي تعاني من ترهل وانقسمات كثيرة، وقد تتعرض لتصويت عقابي من قبل الجسم الانتخابي، الذي لم يشعر بالارتياح والرضا عن حصيلة أداء "فرانسوا هولاند" خلال الخمسية الرئاسية شبه المنتهية (2012 ـ 2017).. لكن من المؤكد أيضا أن الفرنسيين سيتوحدون، يمينا ويسارا، إن هم لمسوا أنفسهم مهددين باجتياح اليمين المتطرف لهم، وقد فعلوا ذلك في رئاسيات سابقة.. لأن التناقض بين اليمين واليسار يصبح ثانويا حين يتعلق الأمر بخطر اليمين المتطرف، وهو في وعي الفرنسيين وتقديرهم السياسي تناقض رئيسي، وخطر يجبُ صَده ومقاومتُه.
لذلك، وفي حال فوز "فرانسوا فيون" بالرئاسيات المقبلة، سيجد الفرنسيون أنفسهم أمام رئيس "ديغولي المرجعية"، منتسب إلى يمين محافظ، راكم خبرة في تحمل المسؤولية السياسية والإدارية، ومتطلع لقيادة مشروع إعادة تقويم وبناء Redressement فرنسا، ومُنبهر في الآن معا ببعض النماذج الأوروبية غير البعيدة عن فرنسا، لعل أكثرها جاذبية تجربة البريطانية " مارغريت تاتشر" خلال ثمانينيات القرن الماضي. فـ"فرانسوا فيون" تقلد منصب وزير أول في عهد الرئيس "نيكولا ساركوزي" (2007 ـ 2012)، على الرغم من ملاحظة الكثير من متابعي الشأن السياسي الفرنسي أنه كان شخصية غير ذات تأثير أمام المركز القوي والمهيمن لرئيسه (نيكولا ساركوزي). وقبل ذلك كان وزيرا للتعليم العالي (1993 ـ 1995)، ووزيرا للاتصال والبريد (1995 ـ 1997)، قبل أن يصبح مع الألفية الجديدة وزيرا للشؤون الاجتماعية والشغل والتضامن (2002 ـ2004)، ووزيرا للتربية الوطنية والتعليم العالي (2004 ـ 2005)، علاوة على عضويته في الجمعية الوطنية لمرات عديدة.
ثمة مصدر آخر من شأنه أن يقدم صورة عن مرشح اليمين والوسط، والآفاق التي تنتظر فرنسا إن هو تخطى الرئاسيات المقبلة وفاز فيها، يتعلق الأمر بما يمكن أن نسميه "هويته" ومنظومة القيم التي تمثل المرجعية الناظمة لسلوكه وتصوراته. فهو كاثوليكي محافظ، يميل إلى التشدد والانغلاق، أكثر من المرونة والانفتاح، وتظهر هذه السمات أكثر في مواقفه من بعض القضايا الداخلية والملفات الخارجية.
ففي موضوع الشرق الأوسط، والملف السوري تحديدا، ينحاز إلى الطرف الروسي، وحليفه السوري، ويجامل إسرائيل في موضوع مقاتلة الحركات الإرهابية، وفي مقدمتها داعش، دون رحمة ولا هوادة.. كما أن موقفه من الإسلام عموما والمسلمين في المهجر، يثير الكثير من القلق والارتياب.. أما داخليا فما انفك يشدد على ضرورة إعادة بناء فرنسا اقتصاديا، لتقويم الاختلالات التي وسمت أوضاعها الاجتماعية، سواء في مجال البطالة والحد منها، أو على مستوى إعادة النظر في فلسفة التنمية والتشغيل عموما.
هذا هو "فرانسوا فيون" الذي صنع المفاجأة، كما صنعها "دونالد ترامب" في أمريكا قبله.