من أشهر أدبيات النظم السياسية العربية خلال الستين عاما الماضية، ومنذ ظهرت الانقلابات العسكرية لتأسيس الجمهوريات الحديثة، ذلك المبدأ الذي لخص به أحد المفكرين الليبيين الموالين للقذافي طريقة عمل "الأخ القائد": "علشان تنور لازم تضلم كل اللي حواليك"، فلم يكن هناك حاكم عسكري يقبل أن يكون بجواره أي شخصية يمكن أن تمثل "بديلا" في أعين الناس، وعادة ما يتم تسويق الزعيم باعتبار أنه هو "الأمل الأخير" للدولة، ويروج إعلامه بأن الدنيا ستنهار من بعده والوطن قد يختفي أو يتعرض لتهديد وجودي بغيابه، وأن البلاد ستتعرض للخراب.
ودائما عندما كان المعارضون يضجون بتجبره واستبداده وفساد نظامه يواجهون بالسؤال النمطي: وهل هناك بديل؟ وبطبيعة الحال يكون من الصعب الإجابة، لأن "الزعيم" جفف المحيط من حوله بالكامل، وكل شخص يظهر منه أي ملامح أو مواصفات قيادية كبديل محتمل ولو بعد قرن من الزمان يتم تدميره، إما باعتقاله وتحديد إقامته والتنكيل به وبأهله كما فعل عبد الناصر مع اللواء محمد نجيب، وإما بتدمير سمعته ثم عزله كما فعل مبارك مع المشير أبو غزالة، الشخصية المثقفة والتي كانت تحظى باحترام كبير في المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني معا، وإما بتصفيته كما حدث في نهاية الحقبة الناصرية وفي حقبة القذافي أيضا، وإما بتجفيف المنابع منذ البداية كما فعل حافظ الأسد وابنه من بعده في سوريا.
في الحالة المصرية الآن هناك مشكلة اسمها "الفريق أحمد شفيق"، وقد قال الدكتور مصطفى الفقي، أحد أهم المحللين السياسيين المصريين المدركين لآليات العمل داخل مؤسسة الرئاسة طوال عصر مبارك وحتى بعد إقالته، بوضوح إن مشكلة الفريق أحمد شفيق في مصر سياسية وليست قضائية، وذلك تعليقا منه على عدم عودته إلى مصر بعد إلغاء القضاء إدراجه على قوائم ترقب الوصول.
الفقي شرح باقتضاب لا يمكن السماح بأكثر منه أن عودة شفيق يمكن أن تحدث استقطابا مجتمعيا في مصر الآن والبلد في غنى عنه، والألفاظ "الديبلوماسية" للفقي يمكن ترجمتها باللغة السياسية الخشنة والصريحة بأن شفيق يمثل تحديا حقيقيا للسيسي ومنظومة الحكم الحالية في مصر، وأن قرار عدم عودته لمصر هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، ولكن يبقى السؤال: ولماذا لا يسمح له بالعودة ثم يوضع تحت السيطرة كغيره من السابقين واللاحقين؟
شفيق يمثل مجموعة مبارك، والنخبة المتصلة به، سياسيا ودبلوماسيا وماليا وإقليميا.. وأخرى، والبعد الإقليمي تحديدا يمثل عامل القوة الأهم له الآن، لأنه يحظى بقبول كبير في الإمارات، الداعم الأساس للنظام المصري حاليا، والسند الأهم للسيسي في حماية النظام من الانهيار على وقع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والمساس بأحمد شفيق خط أحمر إماراتي، لا يمكن السماح به، لأن مجموعة مبارك لها وضع استثنائي في الإمارات، منذ الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله.
وكانت الرؤية الإماراتية لما بعد 3 يوليو وإطاحة مرسي والإخوان أن يعود شفيق ليقود المرحلة، ولم يخف الشيخ محمد بن راشد رئيس مجلس الوزراء الإماراتي وحاكم دبي رؤيته هنا، وقال علانية في شبكة "بي بي سي" الإخبارية البريطانية إنه لا يتمنى أن يترشح السيسي للرئاسة، لكن جرت الأمور في اتجاه مغاير، وبسطت الإمارات حمايتها ورعايتها للفريق شفيق، ورغم أنها سلمت جميع المصريين المقيمين على أراضيها والمطلوبين للقضاء في مصر إلى القاهرة، إلا أن وضع شفيق كان مختلفا، ومن جانبه لم يضغط السيسي لطلب تسليمه أو إعادته، لأنه يعرف حساسية الأمر بالنسبة للإمارات.
شفيق ابن الدولة ومؤسساتها، وابن القوات المسلحة، وعندما تنحى مبارك بعد ثورة يناير كانت الدولة مشدودة من جناحين: جناح شفيق واللواء عمر سليمان بمواجهة جناح المشير طنطاوي واللواء عبد الفتاح السيسي، وقد حسم جناح طنطاوي الأمر سريعا، ثم عاد جناح شفيق/سليمان ليحاول من جديد في الانتخابات الرئاسية، فتم إقصاء عمر سليمان بعدم قبول أوراقه، كما خسر شفيق النزال بصورة اعتبرها هو وفريقه مؤامرة، وغادر البلاد بعدها بيوم واحد، وفهم الناس أنه يخاف من الإخوان، لكن غيبته طالت حتى بعد رحيل الإخوان، وهو ما يعني أن مشكلته في مصر أبعد وأعقد من الإخوان.
خطورة الوضع بالنسبة للفريق شفيق أنه ما زال يمثل "البديل" الأكثر حضورا وفرصة من داخل "الدولة" وليس من خارجها، ومن أبناء القوات المسلحة وليس من خصومها، كما أن ما حققه في نزاله الانتخابي أمام مرشح التيار الإسلامي القوي محمد مرسي منحه شرعية سياسية وشعبية لا يمكن تجاهلها؛ لأنه اقترب كثيرا من الخمسين في المئة، وكان قاب قوسين أو أدنى من الفوز، وما زال يتمسك بالطعن في أنه الفائز، وأن هناك تلاعبا جرى في الانتخابات من جهة ما، لم يسمها ولن يسميها؛ لتمكين مرسي من الفوز وفق ترتيبات، وتمسك بتحقيقات القضاء في تلك المسألة، التي أوشكت على الانتهاء لصالحه بالفعل، قبل أن يتم وقفها بصورة مفاجئة وغير مفهومة، بعد أن جرت اتهامات متبادلة بين قيادات قضائية أحرجت الجميع، وكلما ازداد الضغط السياسي أو الشعبي أو الاقتصادي على السيسي كان "ظل شفيق" حاضرا وضاغطا على أكثر من جهة وأكثر من "مؤسسة"، ولذلك، ورغم أن القضاء رفع اسمه من قوائم ترقب الوصول، إلا أن شفيق لن يعود لمصر الآن، ولن يعود -إذا كان في العمر بقية- إلا إذا كانت صفحة السيسي قد تقرر طيها.