لقد قامت الجماعات السياسية الرئيسية في العراق التي هيمنت على المشهد السياسي منذ نيسان 2003، ومنذ لحظة نشأتها الأولى، على مقولات طائفية بحت بوصفها مقولة سياسية، ومن ثم فهي بطبيعتها أحزاب «طائفية»، أي أنها لا يمكن إلا أن تكون أحزابا كردية أو شيعية أو سنية.
فقد تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني على المقولة «القومية»، ولم يكن الخلاف اللاحق بين المؤسسين، الذي أنتج حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، سوى صراع حكمته العوامل السوسيو- ثقافية المرتبطة بالانقسام السوراني البهديناني، أكثر منه صراعا حول المقولة القومية التي تمسك بها المنشقون أيضا. ولم تكن المقولات الأيديولوجية التي سيقت لتسويغ هذا الانشقاق سوى تمويهات على هذه الحقيقة.
كما قامت الأحزاب الدينية الشيعية، وعلى رأسها حزب الدعوة الإسلامية، بأداء دور مركزي في صياغة «هوية شيعية» ذات بعد سياسي. فقد تأسس حزب الدعوة الإسلامية منذ الاجتماع التأسيسي الأول على مقولة «المذهبية»، وكان الخلافان الرئيسيان بين المؤسسين في هذا الاجتماع هما: طبيعة الحزب وهويته، هل هي وطنية: بمعنى عابرة للهوية المذهبية، أم العكس، والخلاف الثاني كان حول العلاقة مع إيران. وقد انتهى المجتمعون إلى التأكيد على الهوية المذهبية للحزب. أما المجلس الأعلى، الذي تشكل في بدايته بوصفه تجمعا للقوى «الشيعية» المعارضة، فقد ظل محكوما بلحظة التأسيس هذه، وظلت الهوية «الشيعية» تطغى على كل ما عداها. أما التيار الصدري، الذي نشأ تنظيميا بعد العام 2003، فان المقولة «الشيعية» كانت عموده الرئيسي، ليس فقط بسبب طبيعة النشأة التاريخية لهذا التيار من التسعينيات، وإنما أيضا بسبب طبيعة الصراع الذي استحكم بعد 2003.
على أن الملمح الأساسي هنا هو دخول «العلمانيين» على خط التنظير لمقولة الهوية الشيعية، فلم يعد الأمر حكرا على الجماعات الإسلامية، إذ قام هؤلاء بدور مركزي في صياغة هذه الهوية، والتنظير لها في كتابات مثل: «الشيعة والدولة القومية» لحسن العلوي (البعثي السابق)، و«مشكلة الحكم في العراق» لعبد الكريم الأزري (العضو السابق في الحزب الوطني الديمقراطي الليبرالي)، وربما كان صدور «إعلان شيعة العراق» عام 2002، تتويجا لهذا التوجه. فمع هذه الكتابات ظهر خطاب هوية ذو رؤية سياسية تتعلق بالتمييز الذي مارسته الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 ضد «الشيعة»، وبضرورة إعادة توزيع السلطة، أي فيما يتعلق بطبيعة الحكم في العراق. فلم يعد التشيع بعد هذه التاريخ مجرد هوية ثقافية/اجتماعية/تاريخية، وإنما هوية سياسية. تتقدم في تراتبيتها على أية هوية أخرى.
أما الأطراف السنية، جميعها بلا استثناء، فقد تأسست بداية عام 2003، على مقولة الهوية «السنية». وإذا كان الحزب الإسلامي لم يفكر في لحظة التأسيس بمسألة سنيته بوصفها هوية سياسية بسبب من طبيعة الدولة السنية في العراق، إلا أنه عمد إلى محاولة إنتاج هوية سنية خاصة به بعد نيسان 2003 بشكل عملي.
وقد وقعت الجماعات السياسية العلمانية في المأزق ذاته بعد عام 2003، فوجدنا بعضها ينسف تاريخه الوطني العابر للهويات الفرعية أو الولاءات الأولية بقبول الدخول في مجلس الحكم تحت عنوان طائفي محدد! فقد دخله سكرتير اللجنة المركزية الحزب الشيوعي العراقي بوصفه شيعيا، ودخله وريث الحزب الوطني الديمقراطي بوصفه سنيا!
ولم يقتصر الأمر على أحزاب الداخل، فقد اضطرت أحزاب وكيانات أخرى ذات تاريخ ليبرالي مفترض قبل نيسان 2003، إلى القبول بالمنطق نفسه، كما هو الحال مع حركة الوفاق، والمؤتمر الوطني العراقي، حين دخل زعيما كلا الجهتين مجلس الحكم بوصفهما شيعيين! وربما كان إعلان «البيت الشيعي» عام 2004، وعلى يد «العلماني» احمد الجلبي الملمح الأبرز في هذا السياق!
قبيل أية انتخابات عراقية، محلية أو برلمانية، تتكرر بروباغاندا صاخبة عن محاولات تؤكد على ضرورة إزاحة الهويات السياسية الفرعية، من خلال إنتاج كتل «وطنية»، أي كتل عابرة لهذه الهويات. ومن ثم محاولة إعادة صياغة تراتيبة الهويات باتجاه إعلاء «الهوية الوطنية».
وقد شككنا كثيرا بإمكانية تحقق هذه الدعوات المعلنة، بسبب من طبيعة الكيانات السياسية التي تعتمد في ايديولوجياتها مقدمات مذهبية وإثنية محددة، وبسبب من طبيعة الصراع القائم في العراق اليوم.
وقلنا أيضا إن المنطق الطائفي بقى مع ذلك حاضرا في كل هذا الحديث الصاخب عن تشكيل الكتل الوطنية، بمعنى آخر ما كان يجري حقيقة محض محاولة لتأطير الطائفية وليس تجاوزها. وقد سبق أن أطاحت نتائج الانتخابات السابقة بهذا التكتيك تماما، أي أن السلوك الانتخابي للناخب العراقي ظل قائما على أسس طائفية بحتة، إثنيا ومذهبيا، ففي انتخابات الرلمانية لعام 2010، كانت خمس من الكتل الست الفائزة صافية طائفيا (إثنيا كرديا، ومذهبيا شيعيا وسنيا) تماما، على الرغم من محاولة بعضها «تزويق» نفسها من خلال إدراج بعض الأسماء «المختلفة» طائفيا التي لم تحصل في النهاية على أي أصوات! أما في الانتخابات البرلمانية لعام 2014 فقد كانت 32 كتلة من مجموع 35 كتلة فائزة صافية طائفيا!
على أنه لا يمكن أيضا الحديث عن كتل «وطنية» بالمعنى الحقيقي، أي كتل عابرة بشكل مطلق للهوية الفرعية! فالقائمة العراقية التي فازت بالعدد الأكبر من المقاعد في انتخابات عام 2010 لا يمكن أن تصنف في النهاية إلا بأنها ائتلاف سني، وهو ما أفقد الدكتور أياد علاوي، رئيس القائمة، الكثير من ناخبيه في المناطق الشيعية، فلم تحصل القائمة العراقية سوى على أية مقاعد في ثلاث محافظات ذات غالبية شيعية. كما لم تحصل كتلة «الوطنية» بزعامة الدكتور أياد علاوي في انتخابات 2014 على أي مقعد في ثمانية محافظات ذات غالبية شيعية! أي أن كلا القائمتين دخلتا بالضرورة في قائمة التصنيف الهوياتي، ولم يعد بالإمكان توصيفها على أنها قائمة عابرة للطائفية في نظر الجمهور. بل أن الانشقاقات التي حصلت في القائمة العراقية، كانت قائمة على أسباب طائفية بحتة، فقد انشق معظم النواب الشيعة عن القائمة بسبب شعورهم بأنهم ربما يفقدون جمهورهم «الشيعي» في حال بقائهم في قائمة مصنفة على أنها قائمة سنية في سلوكها السياسي.
إن هذا الخطاب «الوطني» المفترض الذي يستخدمه الجميع قبيل أية انتخابات، والذي بدأ يتردد من الآن، استعدادا لانتخابات مجالس المحافظات لعام 2017، وانتخابات مجلس النواب لعام 2018، لا يتسق مع حقيقتين أساسيتين في العراق اليوم، الأولى تتعلق بطبيعة الانقسام المجتمعي الحاد، والثانية بطبيعة الصراع السياسي القائم على أسس الهويات الفرعية. فبعد ثلاث عشرة سنة من الخطاب الطائفي، إثنيا ودينيا ومذهبيا، ومن بناء النظام السياسي ومؤسسات الدولة على أسس طائفية بحتة، لم يعد بالإمكان الحديث عمليا عن كتل سياسية عابرة للطائفية، ومن ثم فان المطروح عمليا اليوم هو مجرد تأطير لهذه الطائفية من خلال «تحالفات» بين كتل طائفية لتشكيل «كتلة» مختلطة، يفترض أصحابها أنها عابرة للهويات الفرعية، بعد إن كانت الكتل التي تصف نفسها بأنها «وطنية»، أو على الأقل «غير طائفية» تعمد إلى ضم بضعة أسماء «مختلفة» لإيهام نفسها قبل الجمهور بانها كذلك!