قضايا وآراء

حرب بلبوس سلام

سنان حتاحت
1300x600
1300x600
ما إن أعلن كيري ولافروف عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في سوريا، حتى انهار بشكل كامل بعد تسعة أيّام فقط. وعلى الرغم من تعدد المؤشرات الواضحة على فشل الهدنة المبكر، فقد التزمت قوى المقاومة الوطنية بها، سعياً لتخفيف وطأة الأزمة الإنسانية الخانقة التي يعيشها المدنيين في المناطق المحاصرة. ولقد اتّسم هذا الاتفاق، كسابقه، بعدم ربطه بخارطة طريق تفضي إلى حل سياسي واقعي ومنطقي، بالإضافة إلى استمرار نهج موسكو وواشنطن باستثناء من تعتبراه إرهابياً من الهدنة. ونقف اليوم فيما تستعر الحملة العسكرية الروسية على حلب الشرقية؛ للتعرّف عن كثب على أسباب الفشل المكرر لكل اقتراح هدنة منذ أول محاولة لكوفي عنان في السادس عشر من آذار/ مارس 2012.

خط أخضر أمريكي

لا يُعد فشل الهدنة الأخيرة الإخفاق الأول للمجتمع الدولي في سوريا، إلّا أن نوع التنازلات التي قدمتها واشنطن لموسكو يستحق الوقوف عليه؛ لأجل التعرّف على محددات سياسة الخارجية الأمريكية في البلاد. وتقوم المقاربة الأمريكية للحل النهائي في سوريا على فرضية أنه ليس لأمريكا ما تخسره في الصراع، وهو ما يدعوها لمساومة خصومها الإقليميين والدوليين على موقفها من النظام مقابل الحصول على تنازلات منهم في ملفات أخرى.

إن زهد إدارة أوباما في التأثير الإيجابي في الحرب السورية تعبير صارخ عن الواقعية السياسية التي لا تتأثر إلا بلغة المصالح والمهددات. وتقتصر الأولويات الأمريكية في المنطقة على أمرين فقط: صيانة أمن إسرائيل أولاً، ومحاربة التوجهات الراديكالية الإسلامية بجميع أطيافها ثانياً، ولا تهديد حقيقيا يدفعها لتغيير سلوكها في التعامل مع خصومها في ظل تقاطع هذه الأوليات مع مصالحهم. ولذا فإن أي تنازل تقدمه الإدارة الأمريكية شكلي ما دام لا يمس تلك الأولويات، وهو رهان سياسي مضمون هدفه إطالة أمد الحرب لحسن استغلال أزمة حلفائها وخصومها على حد سواء.

شروط غير مستوفاة

يعتمد أي اتفاق وقف إطلاق نار على ثلاثة شروط لأجل نجاحها، أولاً، الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع لأجل تحويله لتنازلات تفضي في المحصلة إلى اتفاق سلام مستقر. ثانياً، مناطق نفوذ واضحة لأجل تسهيل عمل آليات المحاسبة والمراقبة، وآخراً الدعم الخارجي للعملية التفاوضية وذلك لأجل ممارسة الضغط الإيجابي أو السلبي على أطراف النزاع للالتزام ببنود الاتفاق. وتبعاً لذلك كان من البديهي أن تنهار الهدنة في سوريا كما توضح المشاهدات التالية:

أولاً: الثقة: لا يخفى على أحد انعدام رصيد الثقة المتبادلة بين الشعب السوري والنظام، وذلك لطبيعة الصراع الصفري بينهما، والأسد أصدق تعبيراً في ذلك من المعارضة السياسية. ويتكرر ذات المشهد بين الفاعلين الدوليين والاقليميين الذين اتّخذوا من الحرب السورية مسرحاً لتصفية حساباتهم، فيما تشتد أزمة الثقة لدى الشعب السوري من الجميع، من داعمي قوى المقاومة الوطنية الذين أثبتوا عجزهم عن رفع معناتهم، ومن أمريكا التي لا يراها تأبه به أو بآلامه، ومن الأمم المتحدة التي ما فتأت اخفاقاتها تتراكم وتتكرر حتى قاطعتها معظم منظمات الإغاثة السورية.

ثانياً: مناطق نفوذ واضحة: على الرغم من وجود مناطق نفوذ صمّاء لكل من تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديموقراطي، فالأمر يختلف في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد التي تضم جيوبا تسيطر عليها على المقاومة الوطنية وتحاصرها قوات النظام. وهذا من شأنه استمرار قدرة النظام على الضغط على المناطق المحاصرة، مما يمنع من بناء أي زخم إيجابي لتنفيذ أي اتفاق هدنة، خصوصاً مع تبني النظام سياسة التهجير الجماعي للحواضن الثورية. أمّا على صعيد مناطق سيطرة قوى المقاومة الوطنية، تقتضي إدارة الاستثناءات التي فرضها المجتمع الدولي على الثوار الابتعاد عن جبهة فتح الشام، وهذا مطلب لن يلبيه الثوار باعتباره مدخلاً للاقتتال الداخلي، ولتشتيت جهودهم على الجبهات المشتعلة في الشمال.

ثالثاً: الدعم الخارجي لجهود التهدئة: يشكّل الضغط الخارجي عاملاً إيجابياً لضمان استقرار الهدن، وإذا ما أمعنا النظر في أهداف القوى الخارجية، لتملسنا مصالحها في استمرار الحرب، خصوصاً تلك التي تدعم الأسد بشكل مباشر. فمصالح إيران وروسيا تلتقي في القضاء على المقاومة الوطنية، انطلاقاً من إدراكهما لطبيعة الصراع الصفري بينها وبين النظام، وينعكس ذلك في تصنيف جميع قوى المقاومة الفاعلة تحت بند الإرهاب لضمان شرعية استهدافها وفق إدارة الاستثناءات. وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة، فأولوياتها لا تتحقق بهدنة تستفيد منها كيانات راديكالية إسلامية سواءً أكانت جبهة فتح الشام أو حركة أحرار الشام أو ما دار في فلكهما، ولا فائدة لها تتحقق من هدنة لا تفضي إلى توحد جهود الفاعلين المحليين مع النظام في مواجهة تنظيم الدولة، وهو تعاون طالما رفضته قوى المقاومة. وفي المقابل نجد أن تركيا ودول الخليج أكثر استعداداً لقبول اتفاق وقف إطلاق نار بحكم انشغالها على جبهات أخرى، ولكن شريطة أن تحافظ المقاومة الوطنية على مكتسباتها، وأن تفضي في محصلتها إلى رحيل الأسد، وهذا ما ترفض طرحه كل من موسكو وواشنطن.

ما هو المخرج إذن؟

تشير معظم القراءات إلى عدم جدوى التعويل على إحراج الإدارة الأمريكية في تبني موقف أخلاقي دون امتلاك أدوات التأثير الفعّالة، بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، مما يحجم الإدارة على القيام أي تغيير حقيقي في سياستها الخارجية حالياً. كما أن انتظار الإدارة الجديدة قد يتحول إلى رهان فاشل في حال فاز المرشح الجمهوري ترامب، أو إلى خيبة أمل كبيرة فيما لو انتصرت كلينتون وعملت على تحسين بعض الشروط الإنسانية دون أن تغير قواعد اللعبة (وهو المتوقع). وكذلك الأمر بما يتعلق بالتوجه إلى روسيا أو إيران لأجل إحداث خرق دبلوماسي قد تنتج عنه مرونة أكبر في الموقف من قضية الشعب السوري، فلكلتا القوتين شروط لا يمكن القبول بها دون إعادة تمكين الأسد من كامل البلاد. وأمّا فيما يتعلق بالاعتماد على تركيا ودول الخليج، فعلى قوى المعارضة أن تعي أن هامش تحرك حلفائها التقليديين قد تقلص كثيراً، وأنهم في الحقيقة يعتمدون على تطور المشهد السوري لأجل الخروج من مآزقهم المتتالية.

لا يسعنا في ضوء هذه القراءة إلّا السؤال عن خيارات المقاومة الوطنية: هل ترضخ لشروط المجتمع الدولي لتقبل بحل سياسي لا يضمن تغيير النظام، فيما تستمر طائراته وقوات حلفائه بمحاصرة مناطق نفوذها بحجة محاربة الإرهاب؟ أم هل تستمر بزج قواها في مواجهة النظام وتنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديموقراطي والمليشيات الأجنبية تحت وطأة التهديد بقطع الدعم والعزلة الدولية؟ أم هناك سبيل آخر ما بين الاستسلام والانتحار؟

لا تملك المقاومة الوطنية خياراً سوى استغلال الهوامش القليلة المتبقية والمتمثلة في التوسع على حساب تنظيم الدولة؛ لأجل تحسين تموضعها العسكري، وبالتالي السياسي، فيما يبقى دعم صمود المناطق المحاصرة التحدي الأصعب. وإن إنقاذ حلب والمناطق المحاصرة الأخرى لا يمكن تحقيقه دون هدنة حقيقة تلجم النظام وروسيا، لن تتمكن المقاومة من التوصل إلى مثل هذا الاتفاق ما لم يتحسن أداء المعارضة السياسية، وهي مهمة حيوية لأجل ترجمة الانتصارات الميدانية إلى فعل سياسي؛ يرغم القوى الدولية على ربط أي اتفاق وقف نار مستقبلي بخارطة طريق واضحة المعالم لحل سياسي واقعي وعادل.
التعليقات (0)