أصبح استهجان مواكب التهليل التي يتم إيفادها مع بعض رحلات الرئيس السيسي الخارجية من الموضوعات القليلة التي ينعقد من حولها إجماع النخبة المصرية. دعك من انطباعات الأجانب التي يهمسون بها في القاهرة وتتراوح بين التندر والدهشة. وفي حدود ما نشرته وسائل الإعلام المصرية فإنني لم أجد أحدا يدافع عن «الزفة» التي شهدتها نيويورك خلال الأسبوع الماضي، وإنما اعتبرها البعض إساءة إلى الرئيس ونظامه. وذهب آخرون إلى أنها إساءة إلى مصر ذاتها، وقرينة دالة على أنها شبه دولة كما قيل وليست دولة محترمة لها حضارة وتقاليد وتاريخ. أما تعليقات المغردين التي حفلت بها وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي فقد عبرت بصياغات شتى عن مشاعر الغيرة والغضب، والحسرة على ما انتهى إليه حال «أم الدنيا».
ما يثير الانتباه في هذا الصدد أن تلك لم تكن المرة الأولى التي تنظم فيها «الزفة»، ولا كانت المرة الأولى التي تقابل فيها بالاستهجان والاستنكار من جانب النخب والطبقة السياسية المصرية. ذلك أنها المرة الثالثة أو الرابعة التي تفضحنا فيها مواكب التهليل أمام المجتمعات الغربية، وإن برز فيها خلال ما سمى بغزوة نيويورك الأخيرة دور بارز للكنائس التي تخلت عن وقارها التقليدي وحشدت الحشود والحافلات لكي تأخذ مكانها في مقدمة الزفة.
تكرار المظاهرة وتكرار استهجانها يعني أن الجهة التي تدير العملية صمت آذانها ولم تبال بكل ما قيل في مصر أو خارجها. فقررت أن تتوقف عن الاستقبال وأن تصر على مواصلة الإرسال. وهي مقتنعة بأن ما تفعله هو الصواب، الذي لا يقبل المراجعة فضلا عن أنه فوق المساءلة. ولا يقولن أحد إن المظاهرة تتم بغير ترتيب، وإنها تعبير عفوي عن مشاعر التضامن والمحبة والموالاة، فذلك مما لا يصح أن يقال لنا في الداخل، وإن جاز أن يرد به على انتقادات الأجانب، ذلك أننا نعرف جيدا أن الأمور عندنا تدار بأسلوب لاعب الشطرنج، الذي يحرك كل قطعة، وليس لاعب الطاولة الذي يلقي بالحجر وهو وحظه بعد ذلك.
بكلام آخر فهذا الذي يحدث تديره جهة «شبح» غير معلومة وغير مرئية تطلق الإشارات وتصدر التعليمات من مكمنها وراء الأستار، بحيث لا يرى الأشخاص ولكننا لا نرى سوى التحركات والأصداء. هذا الشبح غير المرئي أتى على ذكره المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات السابق في حديث له، وكذلك الناشط الحقوقي مالك عدلي في حوار تلفزيوني جرى بثه خارج مصر، إذ حين صدر الحكم بحبس المستشار جنينة فإن ضباط الشرطة في القسم الذي أحيل إليه تخيروا له حجرة مناسبة لكي يقضي فيها ليلته (كانت مكيفة الهواء)، لكنه أوقظ في منتصف الليل لأن تعليمات «الشبح» قضت بنقله إلى غرفة أخرى غير مكيفة ينام فيها على البلاط. ومالك عدلي قال نفس الشيء، إذ قرر أن سجانيه أحسنوا معاملته لكن تعليمات «الشبح» التي هي فوق اللوائح والقوانين كانت تدعو إلى التنكيل به في محبسه في الانفرادي. وسمعت قصصا مماثلة من بعض الذين منعوا من السفر، إذ تبينوا أنه لا توجد أوراق تبرر ذلك، لكنها التعليمات العليا التي يصدرها «الشبح» عبر الهاتف بحيث لا يملك أهل الاختصاص سوى الامتثال لها وتنفيذها.
اجتماع هذه القرائن يعنى أن الحديث عن «الشفافية» يصبح نوعا من الترف والتزيُّد الذي لا نستطيع أن نحلم به، لأننا ما عدنا نتطلع لأكثر من احترام الرأي العام وتطبيق القوانين واللوائح بعيوبها، لأن ترك المصائر «للشبح» يوردنا موارد التهلكة، من حيث إنه يسلمنا إلى الهوى بنزواته وجموحه. إن دولة الشبح هي دولة الخوف واللاقانون بامتياز.
(الشرق القطرية)
1
شارك
التعليقات (1)
محمد الدمرداش
الأحد، 25-09-201610:40 م
طبائع العسكر ................. أن العسكر إذا حكموا يبثون الخوف و الرعب في المجتمعات و تكثر الفزعات بين مختلف الطبقات فلكل طبقة يختار ما يؤلمها و ما يؤثر في نفسيتها لتصل إلى الذل و الانكسار و تضع كرامتها بجوار الحائط ككسرة خبز سقطت من فم مطعوم و تأنف نفسه تناولها مرة أخرى و عندما يصل العسكر إلى التمكن و سلب المجتمعات كل ما لها و يأخذ منها أقصى ما يمكن أن تعطيه يبدأ في المن عليها بجزء من حقها كمنحة أو هبة و إذا ما شعر أفراد العسكر بهبوط المعنويات و تسرب إلى نفسيتهم جزء من اليأس لعدم بلوغ الأهداف فإن لديهم أجهزة لرفع معنويات أفرادهم بأضفاء الهيبة عليهم و تميزهم و الاحتفال بهم و الحفاوة المبالغ فيها لقاء ما يقومون به من فعاليات و ساء أن كانت ذات مردود إيجابي أو تحصيل حاصل .
فإذا رأيت الجهاز المعنوي ( الشبح ) يبالغ في الحفاوة بأفراده و قياداته فهذه قرأه بأن الحال المعنوي عنده على غير ما يرام أو دون المستوى .
و إذا رأيت الجهاز نفسه ( الشبح ) يمعن في أهدار الكرامة فهذه قرأه أخرى انه يشعر بالتقزيم تجاه معارضيه أو قائل الحق في وجهه .
و العسكر عموماً لا يسمع إلا لنفسه و لا يشاور لأنه معتد برأيه مغرور بمكانته و مفردات قوته و سطوته و هيمنته التي لا ينزعها منه إلا القتال أو القتل .