منذ أيام قلائل، أكمل العلامة الشيخ القرضاوي عامه التسعين، أمد الله في عمره، وأحسن عمله، فقد ولد في التاسع من أيلول/ سبتمبر سنة 1926م. والحديث عنه وعن فكره جوانبه متسعة وكثيرة جدا، وبخاصة من عايشه فترة من الزمن مثلي، فقد عرفت الشيخ معرفة عن قرب ما يقرب من عشرين عاما، ولكن من الأمور التي يجهلها الكثيرون عنه مسألة نقد القرضاوي لذاته، وتقبله لنقد الآخرين له، وكتابات القرضاوي النقدية للحركة التي ينتمي إليها هي بداية نقده.
ففي كتابه الذي ألفه في بداية السبعينيات (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) تحدث في نهايته عن بعض أخطاء الحركة الإسلامية، ومنها داء التعجل، وفي كتابه الذي ألفه في بداية التسعينيات (أولويات الحركة الإسلامية) كتب نقدا كذلك عن جمود جماعة الإخوان بعد حسن البنا، وبعض مظاهر هذا الجمود، وفوجئت بعدها بمسؤول في الإخوان يخبرني أن الشيخ القرضاوي تراجع عن هذا الكتاب، وقال: إنه تعجل في كتابته! ولما قابلت الشيخ بعد ذلك عند عملي معه، سألته عن ذلك، فقال: لم يصدر عني هذا الكلام مطلقا، وكيف أعتذر عنه، أو أتراجع، وأنا أراه من أهم كتبي في نقد ومراجعات الحركة الإسلامية.
لكن الملمح الأهم هنا، هو ترحيب القرضاوي بنقد الآخرين له، بل كثيرا ما يكون حريصا على طلب ذلك، لاحظت ذلك في فترة عملي معه، وبعد ذلك، فقد كان يكتب الكتاب، ثم يعرضه على بعض أهل العلم، وينتظر ملاحظاتهم، وأحيانا يكتب الكتاب، ثم يطلب مني المراجعة النقدية للكتاب، وسني وقتها لا يزيد عن الخامسة والعشرين، ولا يجد غضاضة في ذلك، وقد أعلن أكثر من مرة أنه يتعلم من تلامذته، ويستفيد بمراجعاتهم له، وهو أمر لمسه كل من تتلمذ علي يديه، ومن نظر في كتابه (فقه الجهاد) سيجد في كل طبعة منه مراجعات مختلفة عن سابقتها، وذلك لملاحظات يبديها له تلامذته، أو قراء حول الكتاب، فيراعيها في طبعاته الجديدة.
بل قد يصل نقد الآخرين له إلى الطعن فيه، سواء كان طعنا في ثوب علمي، أو طعنا دون علم، فالبعض يكتب ينتقد القرضاوي في مسألة علمية، فيترك الرد العلمي لينتقل إلى الطعن في علم القرضاوي، ونفيه عنه، وربما نفي التدين، ظلما وعدوانا، ومع ذلك كنت أرى الشيخ عند لقائه بهؤلاء الناس، يبش في وجوههم، ولا يتطرق للخلاف، ولا لإساءتهم، وللأسف كنت أرى عوام الناس أسرع عودة بالاعتذار للقرضاوي عن إساءتهم له، عن أناس ينسبون للعلم، أذكر أن امرأة جاءتنا المكتب تبكي، وتعتذر بشدة للشيخ، وتقول له: سامحني، فقد أسأت لك أنا وولدي، وظننا أنك قليل الدين؛ لأنك تيسر على الناس في الفتوى، بسبب كلام بعض مشايخ التشدد عنك، واتهامهم لك، فما كان من الشيخ إلا أن قال لها: ألست مسلمة؟ قالت: بلى، قال: أنا متصدق بعرضي على كل مسلم فيما يخصني شخصيا، وقد سامحتك وسامحت ابنك.
بل كثيرا ما كنت أراه عندما ينقل إليه أحد الناس رأي أحدهم فيه، فيخرج بالموضوع من باب الذم فيه والطعن إلى باب العلم، أذكر مرة قال له أحد طلبة العلم: لقد سأل أحد الناس الشيخ فلان عن فتواك في مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، فنال منك، ومن علمك. توقعت أن يرد الشيخ، أو يبين خطأ الرجل فيما قال، ولكني فوجئت بالشيخ يقول للأخ ناقل الكلام: وما رأي الشيخ فلان في مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية؟ فلم يشغل بكلامه فيه، بل شغله رأي هذا الشيخ علميا في المسألة، وهو الأهم عنده. ولا ينم ذلك إلا عن شخصية عظيمة، ممتلئة بالعلم، لا تخشى نقد الآخرين، بل ترحب به، وتطلبه؛ لأنه يضيف إليه، أما الإنسان الضعيف السطحي، فلا يقبل بالنقد؛ لأن ليس له رصيدا يواجهه به، بل النقد ينهي على ما لديه، ويكشف سطحيته.
وكل عام ومولانا القرضاوي بخير، أمد الله في عمره على طاعته.